مفهومُ الرّوحِ والرّوحانيّةِ في ضوءِ القرءانِ
الرُّوحُ مفهومٌ محوريٌّ في الفكرِ الإنسانيِّ، يرتبطُ غالبًا بالشعورِ والعرفانِ، لكنْ دراسةُ النصوصِ القرآنيّةِ وتحليلُها بدقةٍ يُبرِزُ بُعدًا أعمقَ لمفهومِ الرُّوحِ، وهو ارتباطُها بالنِّظامِ السُّننيِّ العِلميِّ والكونيِّ الذي يَحكمُ الوجودَ، بدلاً من اقتصارِها على التّجاربِ الشعوريّةِ الفرديّةِ. الرُّوحُ، إذنْ، ليسَ حالةً شعوريّةً أو معنويّةً فحسبُ، بلْ هو نظامٌ علميٌّ وأخلاقيٌّ متكاملٌ، يجعلُ الإنسانَ جزءًا من منظومةٍ كونيّةٍ تَنسجمُ فيها المادّةُ والمعنى.

الرُّوحُ في القرآنِ: بينَ الأمرِ الرّبانيِّ والنِّظامِ السُّننيِّ
يتّضحُ من دراسةِ النصوصِ القرآنيّةِ أنَّ الرُّوحَ مفهومٌ يَمتدُّ ليَشملَ الجانبَ العِلميَّ السُّننيَّ الذي يتحكّمُ في المادّةِ وحركتِها. قالَ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الإسراءُ: 85). هذه الآيةُ توضِّحُ أنَّ الرُّوحَ مرتبطٌ بأمرِ الرّبِّ وليسَ نفيًا لمعرفتِه، وهو نظامٌ سُننيٌّ يمكنُ دراستُه وفَهمُه، بخلافِ الفهمِ التّقليديِّ الذي يَراها مجرّدَ سرٍّ غيبيٍّ.
يُبرزُ النصُّ أنَّ العلاقةَ بينَ الرُّوحِ والواقعِ ليستْ علاقةً رمزيّةً أو غيبيّةً غامضةً، بلْ هي علاقةٌ مباشرةٌ وعِلميّةٌ. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعرافُ: 54).
أمرُ الرّبِّ ينقسمُ إلى نوعينِ:

  1. الأوامرُ الشّرعيّةُ: التي تُنظِّمُ حياةَ الإنسانِ إيمانًا واختيارًا.
  2. الأوامرُ الكونيّةُ: التي تتحكّمُ في المادّةِ وحركتِها ضمنَ قوانينَ ثابتةٍ.
    الرُّوحُ في هذا السِّياقِ يُمثِّلُ الجسرَ الذي يَربطُ بينَ الجانبِ النّظريِّ (الأمرِ) والواقعِ المادّيِّ (الخلقِ). فهوَ يَعكسُ القوانينَ العِلميّةَ التي تَحكمُ الكونَ وتَنسجمُ مع النِّظامِ الأخلاقيِّ والاجتماعيِّ الذي وضعَهُ اللهُ للإنسانِ.

الرّوحانيّةُ: العِلمُ والقِيَمُ في خِدمةِ العملِ الصّالحِ
عندما نفهمُ الرُّوحَ كجزءٍ من النّظامِ السُّننيِّ الإلهيِّ، يصير واضحًا أنَّ الرّوحانيّةَ الحقيقيّةَ ليستْ انعزالًا شعوريًّا أو تأمّلًا فرديًّا، بلْ هي انسجامٌ مع هذا النّظامِ من خلالِ:

  1. العِلمِ: دراسةِ القوانينِ التي تَحكمُ الكونَ والإنسانَ، وفهمِ الرُّوحِ كجزءٍ من هذهِ المنظومةِ.
  2. القِيَمِ والأخلاقِ: التزامِ الإنسانِ بالقِيَمِ الإلهيّةِ التي تُنظِّمُ حياتَهُ الفرديّةَ والاجتماعيّةَ.
  3. العملِ الصّالحِ: تطبيقِ هذهِ القِيَمِ عِلميًّا وعمليًّا لإحداثِ تأثيرٍ إيجابيٍّ في العالمِ.
    قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} (الشّورى: 52). الرُّوحُ هنا هوَ القرآنُ، الذي يُمثِّلُ مجموعةً من الأوامرِ الإلهيّةِ، ليسَ فقطْ لتنظيمِ حياةِ الإنسانِ شعوريًّا، بلْ لإرشادِهِ نحوَ العملِ المنتجِ الذي يُحقِّقُ التّوازنَ بينَ نفسِهِ ومحيطِهِ.

انسجامُ الرّوحينِ: الشّرعيِّ والكونيِّ
الإنسانُ الذي يَبتعدُ عنِ الرُّوحِ الشّرعيّةِ، أيْ عنِ الأوامرِ الإلهيّةِ الأخلاقيّةِ والعِلميّةِ، يَعيشُ في اضطرابٍ داخليٍّ؛ لأنّهُ يَخرجُ عن انسجامِهِ مع الرُّوحِ الكونيِّ الذي يَحكمُ المادّةَ والوجودَ. قالَ تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأعرافُ: 54)، فالخلقُ هوَ الجانبُ المادّيُّ، والأمرُ هوَ النِّظامُ العِلميُّ الذي يَحكمُهُ.
رُوحانيّةُ الإنسانِ تَتجلّى في انسجامِهِ معَ هذينِ الجانبينِ، حيثُ يَعيشُ حياةً مُتوازنةً بينَ فَهمِ القوانينِ التي تَحكمُ واقعَهُ والعملِ على أساسِ القِيَمِ التي تَجعلُ هذا الفَهمَ وسيلةً لخِدمةِ الآخرينَ.

الرُّوحُ: منَ النِّظامِ الكونيِّ إلى النِّظامِ الإنسانيِّ
الرُّوحُ إذنْ ليسَ حكرًا على الممارساتِ الشّعوريّةِ أو التّأمّليّةِ، بلْ هوَ امتدادٌ للنّظامِ الكونيِّ الذي يَحكمُ حركةَ المادّةِ والإنسانِ معًا. الرُّوحُ في القرآنِ يُمثِّلُ هذا الجانبَ العِلميَّ والعَمليَّ، الذي يَجعلُ الإنسانَ قادرًا على تحقيقِ الانسجامِ بينَ عقلِهِ وشعورِهِ وواقعِهِ.
الرُّوحانيّةُ الحقيقيّةُ هيَ سَعيُ الإنسانِ لفَهمِ أمرِ الرّبِّ في كلِّ جوانبِ حياتِهِ، وتحقيقُ هذا الفَهمِ من خلالِ العِلمِ والقِيَمِ والعملِ الصّالحِ. بهذا المعنى، تَتجاوزُ الرّوحانيّةُ حدودَ الشعورِ لتَصيرَ حالةً منَ الانسجامِ معَ الكونِ، تَجعلُ منَ العِلمِ والعملِ وسائلَ لتحقيقِ القِيَمِ الإلهيّةِ التي تَدفعُ بالإنسانِ نحوَ الأفضلِ.