قول اليهود والنصارى بالبنوة لله
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }التوبة30
يمثل هذا النص جزءًا من الخطاب القرآني الذي يُعنى بتبيان الانحرافات الإيمانية للمجتمعات السابقة. ينطوي النص على بيان زعمين في الدين أطلقتهما مجموعتان هما اليهود والنصارى، يليه وصف ل”قول“ هاتين الجماعتين بأنه مُشابِه لما قاله “الذين كفروا من قبل”، مما يشير إلى وجود تقليد وتحريف متكرر في الأفكار الإيمانية، وهو ما يؤدي إلى نتيجة واحدة وهي الكفر والباطل.
القرآن يذكر قول اليهود: “عزير ابن الله“، لكنه لم يقدم تفاصيل عن شخصية عزير، مما يفتح المجال لفهم أعمق للدلالة الوصفية لهذه العبارة. هذا القول ربما لم يتم تسجيله في كتب اليهود الرسمية، وقد يكون قولًا شفهياً في مرحلة تاريخية معينة أو رأيًا ظهر بين بعض طوائف من أتباع النبي موسى.
تحليل دلالة كلمة “عزير”:
- عزير كمعنى:
- الجذر (ع ز ر) يشير إلى الدعم والتقوية.
- “عزير” يمكن أن يحمل معنى الداعم أو المقوي، أي رمز أو شخص يُنسب إليه دور كبير في تثبيت الشريعة أو إعادة بنائها.
- إذا فُهم “عزير” كصفة، فإنه يشير إلى فكرة أو مفهوم يمثل دعمًا للشريعة بعد ضياعها أو انحرافها، وليس بالضرورة اسمًا لشخص بعينه.
دلالة “تعزروه” في النصوص القرآنية:
- في سورة الفتح (9):
- (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)
- ورود كلمة “تعزروه” قبل “توقروه” يدل على أن “تعزروه” لا تعني التوقير، بل تشير إلى تقوية الدعوة ودعمها عمليًا.
- في سورة الأعراف (157):
- (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
- مجيء “تعزروه” قبل “تنصروه” يؤكد أن “تعزروه” لا تفيد النصرة المباشرة، بل تتعلق بالتثبيت والدعم الفكري والمعنوي.
عزير كصفة وليس اسمًا:
- كلمة “عزير” تُفهم كصفة مشابهة لكلمة “المسيح”، وليست اسمًا لشخص بعينه.
- ربما تحقق هذا الوصف في شخصية تاريخية معينة (مثل عزرا الكاتب في اليهودية)، لكنه يبقى وصفًا مستمرًا ينطبق على كل من يدعي التحدث باسم الإله أو يتصدر المشهد الكهنوتي.
دلالة عبارة “عزير ابن الله”:
- تشير العبارة إلى غلو اليهود في تقديس مفهوم أو شخصية كهنوتية جعلوها بمثابة “ابن الله”.
- هذا الغلو يعكس انحرافًا في الفكر الإيماني، حيث نسبت صفات إلهية لمن هو دون الله.
- التركيز القرآني هنا ليس على شخص عزير بذاته، بل على انحراف الإيمان نحو إشراك بالله في صفاته أو أفعاله.
“عزير” ليس اسمًا لشخص تاريخي بالضرورة، بل وصفٌ يعبر عن مفهوم يمثل دعمًا للشريعة اليهودية أو تثبيتها. عبارة “عزير ابن الله” تمثل نموذجًا لتحريف الفكر الإيماني، حيث بالغ اليهود في تقديس هذا الوصف أو الشخصية المرتبطة به. القرآن يركز على نقد الانحراف الفكري والإيماني، وليس على شخصية تاريخية بحد ذاتها.
القول والمضاهاة:
ادعاءات الذين كفروا:
يتكرر في النص القرآني ذِكرُ ادعاءات مشابهة نسبت إلى “الذين كفروا” من قبل. ومن ذلك:
- نسبة البنين والبنات إلى الله كما في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ }الأنعام100، ادعاء التجسيد كما في عبادة الأصنام، مما يعكس انحرافًا إيمانياً يتكرر بصور مختلفة.
- إشراك غير الله في العبادة.
دلالة “ذلك قولهم بأفواههم”:
وصف القول بأنه صادر عن “الأفواه” يشير إلى سطحيته وعدم ارتباطه بحقائق أو براهين عقلية. التركيز على “الأفواه” يبرز أن هذه الادعاءات مجرد كلمات لا تحمل مضمونًا حقيقيًا أو دليلًا قائمًا على الفكر السليم. هذا الأسلوب في الخطاب يهدف إلى توضيح هشاشة الأساس الذي يقوم عليه هذا القول.
النتيجة المشتركة:
من حيث النتيجة، يتساوى هؤلاء جميعًا في الانحراف الإيماني والكفر، سواء أكان الادعاء ببنوة الإله، أو تجسيده، أو إشراكه بغيره.
اليهود والنصارى ليسوا أتباع النبيين:
من الدلالات المهمة في النصوص القرآنية أن اليهودية والنصرانية ليستا طائفتين محددتين ظهرتا بعد النبيين، بل هما ملل تنشأ بين أتباع النبيين الذين انحرفوا عن مسار وحدانية الله وأنه أحد صمد. وهذا يفسر قوله تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيٕمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيّفًا مّٔسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) (سورة آل عمران: 67)
دلالة نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم:
لو كانت اليهودية والنصرانية تُشير إلى طوائف ظهرت بعد إبراهيم، لكان نفي انتسابه إليها أمرًا بدهيًا وغير ذي مغزى، وهو ما لا يتناسب مع إحكام النص القرآني. لكن المعنى يشير إلى أن هذه الملل والانحرافات كانت موجودة في زمنه، وأنها تمثل فئة ممن انحرفوا عن دين الوحدانية لله وتوحيده بالعبادة الذي جاء به الأنبياء.
الخلاصة:
النص يسلط الضوء على أن التحريف الإيماني ليس حالة استثنائية، بل ظاهرة متكررة تنشأ بين أتباع النبيين بعد انحرافهم عن الحق. كما يبين النص أن اليهودية والنصرانية ليستا هويتين دينيتين محصورتين بزمن معين، بل هما تمثلان مللًا تتكرر عبر التاريخ بين أتباع النبيين. وبذلك، فإن النتيجة النهائية لهذه الانحرافات هي الوقوع في الكفر والشرك، وهو ما أدانه القرآن بشدة.
اضف تعليقا