دعوى رحمانية الرسم القرآني 

 الرسم القرآني، أو الطريقة التي كتبت بها المصاحف الأولى، مثّل على مر العصور مجالًا للنقاشات العلمية واللسانية. بعض الباحثين والمفسرين المعاصرين ادعوا أن الرسم القرآني نفسه وحي إلهي لا يقل قدسية عن النص القرآني، مستندين إلى اعتبارات تتعلق بخصائص الرسم واختلافاته عن الإملاء القياسي. هذا المقال يناقش هذه الدعوى نقديًا، مع التركيز على غياب الأدلة المنطقية والبرهانية لدعم هذا الادعاء، ويوضح أن كثيرًا مما يُستخدم كدليل ليس إلا تعبيرًا عن رغبات شخصية أو افتراضات غير مبررة.

تحليل الدعوى: الرسم القرآني كوحي

  1. تعريف الدعوى:
    • يدعي أصحاب هذا الرأي أن الطريقة التي كتبت بها المصاحف الأولى، بما في ذلك الاختلافات في الرسم (مثل كتابة كلمة “الصلاة” بـ”الصلاة” أو “الصلوة”)، ليست نتاج اجتهاد بشري، بل جاءت مباشرة بوحي من الله.
  2. الأساس الذي يعتمد عليه هذا الرأي:
    • تساؤلات عن سبب اختلاف الرسم.
    • افتراض أن عدم القدرة على تفسير الاختلافات منطقيًا دليل على أصلها الإلهي.
    • الزعم بأن الرسم يحمل معاني خفية تعكس إعجازًا إلهيًا.

نقد الدعوى

  1. غياب البرهان النصي أو النقلي
  • غياب دليل قرآني صريح: لا توجد آية تشير إلى أن طريقة كتابة المصحف جزء من الوحي. الوحي الموحى به يتعلق بالنص الذي نزل بلسان عربي مبين ، الذي حُفظ في الصدور قبل أن يتم خطه وجمعه في قرطاس. كل الآيات المتعلقة بالقرآن تشير إلى نصه المقروء (اللساني)، وليس إلى الرسم أو الطريقة التي يُكتب بها.
  • غياب دليل من السنة النبوية: الروايات النبوية تؤكد توجيهات في جمع القرآن، لكنها لا تتضمن أي تعليمات تتعلق بطريقة كتابته أو رسمه. هذا الصمت النصي يقوّض فكرة أن الرسم نفسه قد أوُحي به.
  1. افتقار الدعوى إلى المنطقية
  • الفرق بين الخطاب والرسم: الرسم هو تمثيل بصري للخطاب القرآني، بينما الخطاب هو محتواه اللساني والدلالي. الوحي يتعلق بالخطاب، الذي يظل معصومًا في نظامه الصوتي، أما الرسم فهو اجتهاد بشري يعكس أدوات الكتابة المحدودة في زمن الصحابة.
  • الاختلافات كدليل على الاجتهاد البشري: تعدد الأوجه في الرسم (مثل كتابة كلمة “الرحمن” في بعض المصاحف بـ”الرحمان”) يشير إلى مرونة بشرية في الكتابة، تأثرت بقدرات الكُتّاب وإمكانيات الخط في ذلك الوقت. لو كان الرسم وحيًا لكانت طريقة الكتابة موحدة تمامًا في جميع المصاحف.
  1. استخدام التساؤلات كبديل عن الأدلة
  • التساؤلات لا تشكل برهانًا: يعتمد المدافعون عن الدعوى على تساؤلات مثل: لماذا اختلف رسم الكلمة الفلانية؟ كيف يمكن تفسير الرسم غير القياسي؟ هذه التساؤلات، رغم مشروعيتها، لا تصلح دليلًا على الوحي، إذ يمكن أن تُفسَّر بطرق أخرى أكثر بساطة ومنطقية.
  • رغبات وتحكمات: يرى البعض أن كون الرسم غير قابل للفهم التام أو التفسير الكامل يعني أنه يحمل إعجازًا إلهيًا، لكن هذا النوع من التفكير يعكس رغبة في إثبات القداسة، وليس دليلًا علميًا. غموض شيء ما لا يعني بالضرورة أن له مصدرًا خارقًا، بل قد يكون ناتجًا عن ظروف تاريخية أو عملية.
  1. غياب القيمة التفسيرية للاختلافات
  • عدم وجود دليل على “معاني خفية”: كثير من الاختلافات في الرسم القرآني لا تضيف معاني جديدة للنص، ولا تغيّر في دلالاته، مما ينفي فكرة أن الرسم يحمل أسرارًا إلهية. على سبيل المثال، كتابة “الصلوة” بدل “الصلاة” لا تغير في تلاوة الكلمة أو معناها.
  • اختلاف في دلالة الكمة الواحدة باختلاف رسمها لم يأت من الرسم وإنما من دراسة السياق فهو الذي يوجه المعنى ويحكمه.
  • الكتابة كوسيلة، وليست غاية: الرسم القرآني كان وسيلة لحفظ النص، وليس غاية بحد ذاتها. الهدف كان نقل النص الشفوي بدقة، وليس إنشاء نظام كتابي مقدس.

رؤية بديلة: الرسم نتاج اجتهاد بشري

  1. الرسم يعكس الأدوات والإمكانات:
    • الرسم القرآني الأول عكس طبيعة الخط المستخدم في زمن الصحابة، حيث لم تكن قواعد الإملاء موحدة، كما لم تكن الحروف مشكّلة أو منقوطة. هذا يدل على أن الرسم كان اجتهادًا بشريًا يعتمد على الأدوات المتاحة.
  2. التطور الإملائي عبر الزمن:
    • تطورت قواعد الكتابة بعد جمع القرآن، ما أدى إلى استقرار الإملاء الحديث. هذا التطور يُظهر أن الرسم لم يكن ثابتًا أو مقدسًا، بل مرنًا وخاضعًا لتحسينات بشرية.

استنتاج

دعوى أن الرسم القرآني وحي من الله تفتقر إلى أي برهان نصي أو منطقي. الاختلافات في الرسم ليست دليلًا على الوحي، بل نتيجة لظروف تاريخية وخطية معينة. استخدام التساؤلات والغموض كحجة هو محاولة لإضفاء قداسة على عملية بشرية، وهو أمر لا يصمد أمام التحليل النقدي. الرسم القرآني، بكل تفاصيله، يبقى وسيلة اجتهادية لحفظ النص المقدس، لكنه لا يحمل صفة الوحي الإلهي.