صلاحية القاضي في اختيار العقوبة المناسبة لمكافحة الجريمة المنظمة
يُعدُّ تحقيق العدالة في المجتمع من أهم غايات التشريع والقضاء. وقد تناول النص القرآني في سورة المائدة {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }المائدة33، واحدة من أعظم الجرائم التي تهدد كيان المجتمع وأمنه، وهي الجريمة المنظمة التي تتخذ أشكالًا متعددة من محاربة الأمن العام والسعي في الأرض فسادًا، وهي غير الجرائم الفردية التي لها عقوبات خاصة. من هذا المنطلق، يعطينا النص أبعادًا تشريعية وقضائية تتيح للقاضي سلطة تقديرية لاختيار العقوبة المناسبة التي تتماشى مع طبيعة الجريمة وآثارها على المجتمع.
النص القرآني كأساس للتشريع
يتناول النص مفهومًا شاملاً للجريمة المنظمة التي تسعى في الأرض فسادًا، كالإرهاب، أو تجارة المخدرات، أو التهريب، أو نشر الدعارة ( وهي غير ممارسة الفاحشة)..الخ، أو أي فعل يهدد النظام القومي أو الأخلاقي. يشير النص إلى أن جزاء هذه الجرائم متروك للقاضي اختيار ما يناسب الجرم وما يراه رادعاً ونافعاً بين القتل، أو الصلب (بمعنى توقيف حركتهم مثل الحبس)، وملاحقة الأفراد واجتثاثهم من أصلهم ومصادرة أدواتهم و وسائلهم، أو النفي من الأرض. هذه العقوبات ليست مجرد عقوبات بدنية أو معنوية، بل تحمل في طياتها رسالة اجتماعية وردعًا لمن تسوّل له نفسه العبث بأمن المجتمع.
مرونة التشريع وسلطة القاضي
يوفر النص إطارًا مرنًا لاختيار العقوبة بناءً على طبيعة الجريمة وضررها. هذه المرونة تعكس حكمة التشريع في مراعاة الظروف المختلفة لكل قضية. القاضي، باعتباره الجهة المنوط بها تطبيق التشريع، يُمنح صلاحية تقديرية لاختيار العقوبة المناسبة من بين الخيارات المحددة، وفقًا لمعايير عدة، منها:
- خطورة الجريمة: تختلف العقوبة بناءً على الأثر السلبي للجريمة على المجتمع، فالجريمة التي تهدد حياة الأفراد بشكل مباشر قد تستوجب عقوبة الإعدام، بينما قد تتطلب الجرائم ذات الطابع الاقتصادي النفي أو مصادرة قدراتهم المادية ووسائلهم التي يستخدمونها.
- درجة التنظيم والتخطيط: الجريمة المنظمة التي تعتمد على التخطيط والتنفيذ الدقيق تتطلب ردعًا أكثر حزمًا مقارنة بالجرائم الفردية العشوائية.
- ظروف الجاني والمجني عليه: من الضروري النظر في دوافع الجاني والظروف المحيطة بالجريمة لضمان تحقيق العدالة والردع.
تحقيق الردع والإصلاح
تُبرز العقوبات التي أشار إليها النص مبدأين أساسيين:
- الردع العام والخاص: العقوبات الرادعة تهدف إلى حماية المجتمع من تكرار الجريمة من قِبل الجاني أو الآخرين.
- الإصلاح وإعادة التأهيل: النفي من الأرض قد يُفسَّر كوسيلة لإبعاد الجاني عن بيئته الإجرامية وإتاحة فرصة لإعادة تأهيله.
الأمن القومي والأخلاقي
تُشكّل الجرائم المنظمة تهديدًا مزدوجًا للأمن القومي والأخلاقي. فالأمن القومي يتضرر من الجرائم التي تهدد استقرار المجتمع، كالتمرد والإرهاب. أما الأمن الأخلاقي، فيتضرر من الجرائم التي تفسد النظام القيمي، مثل الاتجار بالبشر والمخدرات. ومن هنا تأتي أهمية تطبيق العقوبات المناسبة لمواجهة هذه التهديدات.
دور القاضي في مكافحة الجريمة
تُظهر مرونة النص أهمية دور القاضي في مكافحة الجريمة المنظمة. فالقاضي لا يقتصر دوره على إنفاذ العقوبة، بل عليه أن يوازن بين تحقيق الردع وحماية المجتمع من جهة، وضمان حقوق الجاني في محاكمة عادلة من جهة أخرى. ويحتاج القاضي إلى أدوات قانونية ودعم تشريعي لتحديد العقوبة المناسبة وضمان فعاليتها.
الخاتمة
إن النص القرآني في سورة المائدة (33) يقدّم إطارًا تشريعيًا مرنًا يمكن للقضاء المعاصر الاستفادة منه في مكافحة الجريمة المنظمة. سلطة القاضي في اختيار العقوبة المناسبة تعكس حكمة التشريع في مراعاة الظروف المختلفة لكل جريمة، بما يحقق الأمن القومي والأخلاقي ويضمن العدالة للمجتمع والفرد.
اضف تعليقا