ممارسة السياسة بين الممكن والواجب

     تعد السياسة من أكثر المجالات الإنسانية تعقيدًا وتشابكًا، إذ ترتبط بعلاقات السلطة وإدارة الشأن العام، وتتطلب تحقيق التوازن بين المبادئ والمصالح، وبين المثاليات والواقع. ينظر إلى السياسة على أنها فن الممكن، حيث تتعامل مع ما يمكن تحقيقه فعليًا في ظل الظروف الراهنة، بدلًا من التمسك بما ينبغي أن يكون وفقًا للمثالية. يشكل هذا التوجه جوهر العمل السياسي، الذي يهدف إلى حماية الكليات، وتحقيق المصالح العليا للأمة والمجتمع.

السياسة كفن الممكن

السياسة لا تهدف إلى تحقيق الكمال المطلق، بل تسعى لإيجاد الحلول الأنسب في ظل قيود الواقع. يتطلب هذا فهمًا عميقًا للموازين القائمة، سواء كانت اقتصادية، اجتماعية، أو سياسية. الفكرة الصائبة من الناحية النظرية قد تكون غير مناسبة للتطبيق العملي إذا كانت تتعارض مع الظروف السائدة أو إذا كانت تفتقر إلى دعم الجماهير أو الموارد اللازمة لتحقيقها.

على سبيل المثال، في الأزمات الاقتصادية، قد تكون السياسات التقشفية ضرورية لضمان الاستقرار المالي، حتى وإن بدت قاسية وغير مرغوبة شعبيًا. هنا، لا يتعلق الأمر بالصواب النظري، بل بالاختيار الأنسب للحفاظ على استقرار الدولة.

المناورة والتنازلات الجزئية

السياسة تتطلب مناورة مستمرة بين المصالح المختلفة، وأحيانًا تقديم تنازلات نسبية في القضايا الجزئية للحفاظ على الكليات. السياسي الحكيم هو من يدرك أهمية التضحية ببعض المكاسب الصغيرة لتجنب خسارة أكبر. على سبيل المثال، قد يضطر سياسي إلى عقد اتفاقية تحوي تنازلات مؤقتة لضمان تحقيق أهداف استراتيجية على المدى البعيد.

التنازلات ليست دليل ضعف، بل وسيلة لتعظيم المكاسب والحفاظ على الأمن الوطني والاجتماعي. إذ قد يؤدي التمسك بالمواقف المتشددة أو المثالية إلى خلق صراعات أو تهديد استقرار المجتمع.

المصالح والمقاصد كمعايير

في المنظور السياسي، تُعد المصالح والمقاصد معايير أساسية في اتخاذ القرارات. الهدف الأساسي للعمل السياسي هو تحقيق الخير العام وحماية الأمن الوطني والاجتماعي. المصالح هنا لا تعني الانتهازية، بل مراعاة الأولويات التي تحقق الاستقرار والرفاهية العامة.

الاعتماد على المصالح والمقاصد يتطلب نظرة استراتيجية طويلة الأمد. السياسي الناجح لا يركز فقط على المكاسب الآنية، بل يضع في اعتباره التأثيرات المستقبلية للقرارات. فمثلًا، قرار خوض حرب أو توقيع اتفاقية سلام يجب أن يُدرس بناءً على مصلحة الأمة في الحفاظ على سيادتها وأمنها، حتى لو كان القرار لا يلقى قبولًا شعبيًا في اللحظة الراهنة.

السياسة والواقع

السياسة تعتمد على قراءة دقيقة للواقع، وليس على الرغبات أو المثاليات. فهم تعقيدات الواقع، بما يشمل القوى الفاعلة، التحديات، والفرص، هو أساس نجاح العمل السياسي. السياسي الذي يتجاهل الواقع لصالح المثاليات قد يفشل في تحقيق أي إنجاز ملموس.

الخاتمة

السياسة هي فن الممكن، تعمل في منطقة رمادية بين المثاليات والواقع، بين المبادئ والمصالح. تتطلب مهارة في التوازن، وحكمة في المناورة، وجرأة في اتخاذ القرارات الصعبة. السياسي الناجح هو من يدرك أن الفكرة الصائبة نظريًا قد لا تكون مناسبة للتطبيق العملي، ويعمل على تحقيق الأنسب للظرف الراهن مع الحفاظ على الكليات والمصالح العليا للمجتمع. بهذا المنظور، تصبح السياسة أداة لتحقيق الأمن الوطني والاجتماعي، وليس مجرد سعي وراء الكمال أو المثالية المطلقة.

أسفل النموذج