تحليل شخصية فرعون ومن فرعنه

يتناول القرآن الكريم نماذج متعددة للطغاة والمستبدين الذين تجاوزوا حدود الإنسانية والعدالة في تعاملهم مع شعوبهم. ومن أبرز هذه النماذج فرعون، هامان، وقارون. تمثل هذه الشخصيات مثلث الإجرام الذي جمع بين السلطة المطلقة، الهيمنة الفكرية، والتكديس الاقتصادي. هذه الدراسة تهدف إلى تحليل شخصياتهم ودور الشعوب في تمكينهم، مع تسليط الضوء على الآيات القرآنية ذات الصلة وربطها بالتحليل النفسي والفلسفي، مع عرض رأي علماء النفس في سلوك الحاكم المستبد.

تحليل كلمة فرعون لسانياً

فرعون من فرعن وجذرها كلمة فرع (ف- ر-ع)، الذي يشير في العربية  على”الفَرْع” أي الزيادة أو التفوق أو العلوّ. ومن هذا الوجه تطلق الكلمة على  شخص متعالٍ ومتجبر، مما يطابق وصف فرعون في سياق القرآن.

وكلمة فرعون في النص القرءاني ليست اسما وإنما وصفًا تحقق بشخص في التاريخ ولكنها متحركة  وتتمثل في كل حاكم تفرعن فهو فرعون ولكل زمان فراعنته.

تحليل شخصية فرعون

أولاً: الاستبداد والمرض النفسي

صارت كلمة فرعون رمزاً للحاكم المستبد. وعلماء النفس، مثل إريك فروم، يرون أن المستبد يعاني من اضطرابات نفسية تتمثل في جنون العظمة والنرجسية. يصفه القرآن بأنه “علا في الأرض” ( القصص: 4)، وهو تعبير عن تكبره واعتقاده بأنه فوق الجميع. مثل هذا السلوك ينشأ من إحساس داخلي بعدم الأمان والخوف من فقدان السيطرة. فيقوم بالقمع والإرهاب لكل من حوله.

ثانيًا: تحليل ادعاء الألوهية والربوبية من قبل فرعون

ادعى فرعون الربوبية كما في قوله: “أنا ربكم الأعلى” (النازعات: 24)

 وهنا ينبغي أن نقف وقفة طويلة لماذا تجرأ فرعون على إدعاء الربوبية، وهو يعلم أنه كائن ضعيف وسوف يموت مثله مثل سائر الناس؟

من خلال تحليل الحدث نصل إلى أن الفرد وحده لايمكن أن يدعي الربوبية وإنما يلزم له بطانة وجمع من حوله يجعله رباً وينفخ فيه هذا الشعور بالعظمة وهو يتماهى مع هذا الدور وتمتلئ نفسه بشعور العظمة والتفوق والعلو على الناس ويتمثل ذلك بسلوكه ويصير ينظر للناس أذلة وحقراء وتافهين… وهذا ما عبر عنه القرءان بقوله {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }الأعراف27، وبناء على هذه الرؤية يتعامل معهم فلا يقيم وزنا لحياتهم ولا لمالهم ولا لأعراضهم بل ويظن أنه يملك كل هذه الأشياء والشعب يعيش في ملكه أو مزرعته مثل الأنعام ، وهذا يوصلنا إلى أن الادعاء بالربوبية يأتي من بطانته والتجمع حوله ويستخدمهم في تكريس هذا المفهوم بين الناس بأساليب كثيرة منها القمع والإرهاب ومنها الفكر والدين…وهذا ما عبر عنه القرءان صراحة بقوله {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ }الزخرف54، صار ينظر للناس أنهم سخفاء لاقيمة لهم فتفرعن وادعى الربوبية ولا يشترط أن يلفظ ذلك بكلامه فهو يمارس ذلك كلسان حال، فالذي جعل الحاكم فرعون هم الناس بسخافتهم وذلهم وغياب التفكير والمنطق عندهم وعدم علمهم بحقوقهم وسكوتهم عنها، فتفرعن الحاكم وهذا معروف عند الناس بمقولة  قيل لفرعون من فرعنك ؟ قال لم أجد أحد يردني ويوقفني عن ذلك!

ويقوم فرعون بتوريط بطانته بالفساد والإجرام ليصير أمنهم من أمنه فيحافظون عليه ويحمونه، لأن سقوط فرعون هو سقوط لهم أيضاً فيستميتون بالدفاع عنه

وعندما رأى فرعون ذلك من الشعب وطال الزمن عليهم من الذل والظلم والتخلف وتعاظم فرعون بعين نفسه نتيجة الانبطاح والذل والتعبد له من قبل جماعته وبطانته 

فادعى الألوهية كما في قوله: “ما علمت لكم من إله غيري” (القصص: 38) واستغل أنه يتحكم بثروات البلد ويملكها واستغل الدين والفكر لتكريس سلطته وترهيب الشعب. وتعظيمه.

ثالثًا: المكابرة رغم ظهور الحقيقة

هل كان فرعون يصدق بقرارة نفسه أنه ربا وصار إلها؟ بمعنى هل هو خالق السموات والأرض والمتحكم بإدارة الكون؟ والجواب قطعاً بالنفي فهو يعرف بقرارة نفسه أنه إنسان له غرائز وحاجيات عضوية مثل سائر الناس ويجوع ويمرض وسوف يموت لاحقاً، إذا فرعون لم ينف وجود الله الخالق المدبر ، ولم يدع فرعون أنه خلق السموات والأرض، وهو يعلم أن النبي موسى على حق وهو نبي  مبعوث من الله لينقذ بني إسرائيل من العبودية و الذل، ورفض فرعون لذلك ليس رفضا لدعوة النبي موسى وإنما رفض تحرير بني إسرائيل لأنهم اليد العاملة المجانية عنده ، وهذا يدل على أن معظم الصراع بين النبيين وسادة قومهم ليس الفكر وإنما المكاسب والمصالح والثروات ودعوتهم للمساواة بين الناس وتحقيق العدالة  والشورى والحرية و الكرامة للناس وهذا لايريده فرعون وبطانته فيقوم باستخدام الصراع الفكري والديني ويختبئ خلفه. وهذا ما عبر عنه القرءان بقوله  {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ }الشعراء35، بمعنى أن النبي موسى يريد أن يحرر بني إسرائيل من العبودية وبالتالي تخسروا اليد العاملة المجانية وتخسروا أرضكم وانتاجكم ، فأثار فيهم شهوة التملك والثروة ليقفوا معه ويدعموه.

ورغم معرفة فرعون بحقيقة رسالة موسى، أصر فرعون على إنكارها بدافع شهوة السلطة والهيمنة. قال تعالى: “وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا” (النمل: 14). هذه المكابرة النفسية تتجلى في محاولته الهروب من الهلاك عندما ادعى الإيمان عند الغرق: “آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل” (يونس: 90). هذا الاعتراف يعكس خوفه من الموت وليس إيمانًا صادقًا، وهذا تفسير لماذا الحاكم الفرعوني لا يتنازل عن حكمه أبدا حتى يرى الموت بعينه أو الخطر المحدق به، لأن شهوة السلطة والمال تعمي بصيرته  .

الآية: “فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية” (يونس: 92)

  1. النجاة تشير لسانياً ومنطقياً إلى إنقاذ كائن حي من خطر وتهديد، ولا تُستخدم مع الجثة.
  2. الغرق حالة مؤقتة لا تعني الموت بالضرورة. نتيجته تحددها الأفعال الأخرى مثل “مات” أو “أنقذناه”.
  1. القول “غرق زيد ولكن أنجيته” إذا كان زيد لا يزال حيًا وتم إخراجه من الغرق.

الفرق بين البدن والجسم والجسد “:

  1. بدن: تشير إلى الكيان الظاهر المستقر الذي يغلف ويحتوي داخله على شيء مستور، ويركز على الشكل الخارجي.
  2. جسم: يشير إلى الكيان المادي المرتبط بتفاصيل التركيب والعناصر التي تكوّنه. وهو يتعلق بالحياة البيولوجية
  3. جسد: يركز على الكيان المادي دون الحياة البيولجية

{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ }طه88

 تشير إلى أن فرعون كان حيًا وقت نجاته. النجاة هنا تعني إعادته ذليلًا أمام قومه ليكون عبرة. هذا الفرق ضروري لفهم دلالات النصوص القرآنية المتعلقة بالموت والحياة، ويظهر أن فعل النجاة مرتبط بحالة الحياة وليس الموت.

تحليل شخصية هامان

تحليل كلمة هامان

  • ·  هامان” مشتقة من الجذر “همن” مع زيادة الألف. الألف هنا تُضيف امتدادًا أو شمولية للدلالة الأصلية.
  • يمكن أن يُفهم على أنه شخص أو كيان يعمل في سياق السيطرة والتنظيم الذي يحقق تأثيرًا واسعًا.
  • الدلالة في السياق القرآني:
  • كلمة “المهيمن” في النص {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (الحشر: 23) تعني التحكم الكامل والسيطرة المطلقة مع التخطيط المحكم والتدبير الدقيق.
  • إذا أخذنا “هامان” في ضوء هذا الجذر، تشير إلى شخصية تلعب دورًا تنظيميًا مركزيًا أو تنفيذيًا في التأثير على الناس والسيطرة على عقولهم وتوجيه سلوكهم. نحو شيء معين.

 

أولاً: الهيمنة الفكرية والدينية

هامان يمثل الجانب الفكري والديني لتحالف الطغيان. دوره في بناء صرح فرعون كما في قوله: “وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب” (غافر: 36) {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ }غافر37 ليس المقصد ببناء صرح بناء برج أو مكان مرتفع ليصعد عليه فرعون وينظر في أسباب الخلق من الناحية العلمية السننية وإنما قصد بناء منظومة فكرية مضادة لمنظومة  فكر النبي موسى ودعوته لدحضها والتشويش عليها ، ولذلك هامان ليس اسم لمسؤول بناء عند فرعون كما ذكروا في بعض التفاسير بل هو رجل الدين و الفكر الكهنوتي

ثانيًا: نشر الخرافات وتغييب التفكير النقدي

هامان استغل الدين زيفًا لتضليل الناس وتثبيت أركان حكم فرعون والتسبيح بحمده. واستخف بالعقول وغيب التفكير الحر النقدي، وربط الناس به كمرجع لاهوتي  وساهم في نشر الخرافات والتذليل للحاكم على أنه الرب الذي يجب أن يعبد ولايخرج أحد عن أمره لأنه ظل الله في الأرض وأبقى الشعب في حالة من الجهل والخضوع.

ثالثًا: اغتيال التفكير الحر

استخدم هامان الدين كأداة لاغتيال التفكير النقدي، مما أدى إلى تبعية عمياء. هذا السلوك يعكس استراتيجيات الأنظمة الاستبدادية التي تعمل على تغييب العقول.

تحليل شخصية قارون

تحليل كلمة قارون من قرن وتعني توقيف الشيء بتكرار وستره ومن هذا المفهوم ظهر معنى الجمع بين الأشياء مع بعضها ومنه المقارنة

أولاً: التكديس الاقتصادي

قارون يمثل الجانب الاقتصادي لتحالف الطغيان. قال تعالى: “إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم” (القصص: 76). رغم أن قارون من بني إسرائيل ومع ذلك خانهم وظلمهم ودعم فرعون، وهذا يدل على أن رجل الاقتصاد الطاغية لا أمان له ولا خير فيه لقومه ومستعد أن يقف ضدهم ويتحالف مع فرعون

ثانيًا: الأنانية وحب الذات

تصريح قارون: “إنما أوتيته على علم عندي” (القصص: 78) يعكس غروره وأنانيته، واعتقاده بأن ثروته نتيجة لجهده فقط دون اعتبار لدور المجتمع ومن عمل معه وعنده في استغلالهم لتكديس ثروته. هذا الاعتقاد يعكس مرضًا نفسيًا يتمثل في الجشع وحب السيطرة.

ثالثًا: العاقبة المهلكة

نهايته كانت عبرة للأمم: “فخسفنا به وبداره الأرض” (القصص: 81). هذا يوضح أن الطغيان الاقتصادي يؤدي بصاحبه إلى الهلاك.

دور الشعوب في تمكين الطغاة الثلاثة مثلث الإجرام فرعون وقارون وهامان

أولاً: الصمت والخضوع

الشعب في عهد فرعون كان نموذجًا للخضوع والذل، مما سمح لفرعون بالاستخفاف بهم كما في قوله: “فاستخف قومه فأطاعوه” (الزخرف: 54). هذا الاستخفاف يعكس انهيارًا في الوعي الجمعي.

ثانيًا: الخوف وغياب الوعي النقدي

الشعب لم يتحرك رغم رؤية الآيات بأعينهم: “قالوا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا” (الأعراف: 129). هذا يدل على خوف متجذر وغياب روح المبادرة. والمسؤولية والهوان الذي وصلوا لهم

ثالثًا: المسؤولية الجماعية

القرآن يؤكد أن الاستبداد لا يمكن أن يستمر إلا بدعم أو صمت الشعب. الشعوب التي تخضع للطغاة تتحمل مسؤولية في تمكينهم واستمرار ظلمهم.

الخاتمة

فرعون، هامان، وقارون يمثلون تحالفًا استبداديًا جمع بين السلطة المطلقة، الهيمنة الفكرية، والتكديس الاقتصادي. كل منهم أسهم بطريقة مختلفة في استعباد الشعب. ومع ذلك، الشعوب بدورها كانت سببًا رئيسيًا في تمكين الطغاة بخضوعها وصمتها.

والأخطر من ذلك التحالف الثلاثي أن يتم اختزال المقامات الثلاثة بشخص واحد فيصير فرعون هو قارون وهامان بوقت واحد

رأي علماء النفس يؤكد أن الحاكم المستبد يعاني من اضطرابات نرجسية وعقد نقص تجعله يتمادى في الباطل رغم وضوح الحقيقة. الطغيان ليس إلا انعكاسًا لضعف المجتمعات التي تقبل به. القرآن يقدم نماذج خالدة عن المستبدين كفرعون وهامان وقارون كرموز، ويُظهر أن نهايتهم الحتمية هي الهلاك والذل.

وينبغي أن نعلم  أن التغيير لايحصل إلا بتغيير ما بأنفس المجتمع من ظلم وجهل وتخلف ليستلموا المبادرة ويتحملوا المسؤولية وهذا لايكون إلا من خلال مؤسسات وليس حالة فردية ، وهذا ما عبر عنه النص القرءاني 

{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }الرعد11

وفي حال تخاذل المجتمع عن التغيير ولم يغير ما بنفسه بيده ومعرفته ويسيطر على الوضع بأقل الخسائر الممكنة، وتكرس الطغيان  والفساد والظلم وتجذر وحصل انغلاق  واستحال التغيير يأت دور التغيير الإلهي وهو تغيير كارثي التدمير للمجتمع وفق سنة هلاك المجتمعات ليفسح مجالا لغيره في الحياة وبناء مجتمع جديد

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء16