نظرية عائدية الضمائر في القُرآن

اللِّسان العربي المبين هو نظام صوتي منطقي متعلق بالكون ومحكوم بقوانينه، مما يستلزم التعامل معه بأسلوب علمي دقيق. هذا يفرض تمييزًا واضحًا بين خطاب البشر الانفعالي وخطاب القُرآن العلمي. البشر يميلون إلى استخدام المجاز، التساهل، والمصطلحات الثقافية، مما يجعل خطابهم غير صالح كأساس لقواعد علمية. على النقيض، القُرآن هو النص الوحيد الذي يمكن اعتباره خطابًا علميًا يُبنى عليه قواعد لسانية دقيقة.

الفرق بين الخطابين الإنساني والإلهي

خطاب البشر يتسم بالتالي:

  1. التساهل في استخدام الضمائر: كاستخدام ضمير الجمع للإشارة إلى المفرد.
  2. المجاز والتعابير الثقافية: مثل استخدام الاستعارة أو الكناية.
  3. تأثره بالثقافة والبيئة: مما يجعل فهمه نسبيًا ومتغيرًا.
  4. القصور العلمي: حيث يعتمد على سماعية اللغة وليس منطقها.

أما خطاب القُرآن فيتصف بـ:

  1. الدقة في استخدام الضمائر: بحيث يرتبط الضمير منطقيًا وواقعيًا بمحل الخطاب.
  2. عدم التساهل أو المجاز: حيث لا يمكن تطبيق مفاهيم البشر الانفعالية مثل التعظيم أو التفخيم على النص القرآني.
  3. المنطقية والصدق والصواب: كأساس لفهم النصوص.

القواعد الأساسية للنظرية

  1. الخطاب القرآني نزل بلسان عربي مبين:
    • القرآن الكريم نزل بلسان عربي منطقي لا يقبل العبث والحشو أو الالتباس.
    • الدليل: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (الشعراء: 195).
  2. الخطاب القرآني يقوم على الحق:
    • كل ما ورد في القرآن يعبر عن حقائق مطلقة في الأخبار والأساليب، ولا يقبل المجاز.
    • الدليل: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (الإسراء: 105).
  3. الخطاب القرآني يقوم على الصدق:
    • التعبير القرآني صادق في دلالاته ولا يخرج عن الواقع.
    • الدليل: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (النساء: 87).
  4. الخطاب القرآني يقوم على الإحكام:
    • كل آية في القرآن محكمة في دلالتها وتترابط مع السياق العام.
    • الدليل: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ (هود: 1).

مفهوم الرب والأرباب

كلمة “الرب” تدل على من يقوم بالإدارة والتدبير، وتطلق على:

  1. الله رب العالمين:
    • الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الفاتحة: 2).
    • ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (الأنعام: 102).
  2. من يقوم بالإدارة بإذن الله:
    • وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (الفجر: 22).
    • الفعل “جاء” عندما ينسب لكائن، يكون على المعنى المادي وليس المعنوي. هذا الفعل يمثل تغيرًا لا يكون إلا للحادث، مما يدل على أن كلمة “رب” في النص لا يقصد بها الله، فهو أحد صمد وليس كمثله شيء.
  3. الإنسان كرب لشؤون الآخرين:
    • وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (يوسف: 42).

الضمائر في القرآن الكريم

ضمير “أنا”:

  • يُستخدم للإشارة إلى الله بصفته المتكلم المباشر:
    • إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا (طه: 14).
  • قمة التعظيم والتفخيم الإلهي تتجلى باستخدام ضمير المفرد. يؤكد الخطاب على وحدانية الله وإفراده بالعبادة، مما يناقض فكرة أن ضمير الجمع يستخدم للتفخيم.

ضمير “هو”:

  • يُستخدم للإشارة إلى الله بصيغة الغائب من قبل متكلم عنه:
    • هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ (الحشر: 23).

ضمير الجمع “نحن أو نا”:

  • يُستخدم للإشارة إلى مجموعة من الفاعلين تحت إرادة الله، بما يشمل السنن الكونية أو الوسائط المأذون لها.
  1. في سياق الخلق:
    • إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ (الإنسان: 2).
      ضمير “إنا” يشير إلى الله والأرباب الذين يباشرون الخلق والسنن الكونية التي تتضافر في عملية الخلق.
    • مثال: الإنسان يمكن أن يخلق، كما جاء في قوله:
      أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ (آل عمران: 49).
  2. في سياق إنزال القُرآن:
    • إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: 9).
      يشير ذلك إلى أمر الله، وتنفيذ جبريل، والمساهمات الإنسانية في نقل النص.

إضافة كلمة “العباد”:

  1. كلمة “العبادة” تكون لله عندما تأتي بسياق المفرد أو الأمر بالعبادة، لأنها لا تكون بشكل مطلق إلا لله:
    • أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (نوح: 3).
    • إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة: 5).
  2. تُضاف للأرباب عندما تأتي بصيغة الجمع، ويكون معنى العبادة الطاعة والالتزام بما أنزلوا وأمروا بإذن الله:
    • وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (الأنبياء: 73).
  3. تُستخدم للإشارة إلى التبعية الاقتصادية:
    • وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ (النور: 32).

عائدية الضمائر في القُرآن

قاعدة “الضمير يعود إلى أقرب مذكور قبله ” ليست منطقية ولا لسانية وإنما هي مقولة أو قاعدة في خطاب الناس فيما بينهم:
  1. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ (الزخرف: 61):
    الضمير “إنه” يعود إلى القرآن، الذي هو علم للساعة.
  2. وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ (هود: 17):
    التحليل المنطقي يوضح أن الشاهد موجود في بنية القرآن ذاته.

الله لا يباشر الأفعال بنفسه

نسبة الأفعال لله هي من باب أنه الفاعل أصالة وكل شيء يحصل بعلمه وإذنه وقدرته ولا يعني أنه يباشر الفعل بنفسه. لنقرأ:

  1. اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا (الزمر: 42):
    نجد نصًا آخر ينسب فعل التوفي لملك الموت والملائكة:

    • قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ (السجدة: 11).
    • الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ (النحل: 32).

الله يأمر ملك الموت والملائكة بتوفي النفوس، مما يبرر استخدام الضمائر المختلفة.

  1. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (ق: 16):
    ضمير الجمع يعكس تعدد الأطراف المُنفِّذة لأمر الله في الواقع.

استنتاجات

  1. التفريق بين الخطابين: يجب الفصل بين القواعد التي تُطبَّق على الخطاب البشري والخطاب الإلهي.
  2. عائدية الضمائر: تُفهم من خلال السياق العام للخطاب الإلهي والمنظومة القرآنية.
  3. دقة الخطاب الإلهي: القُرآن يلتزم بالمنطق والصدق والصواب في كل تفاصيله، بما في ذلك استخدام الضمائر.
  4. رفض المجاز: لا يمكن اعتبار أي جزء من الخطاب القرآني مجازيًا أو انفعاليًا.

نظام الضمائر في القُرآن يعكس دقة منطقية تُبرز الفرق الجوهري بين الخطاب الإلهي والخطاب البشري. الفهم الصحيح للضمائر يستلزم دراسة النص القرآني كوحدة متكاملة تحكمها قواعد ثابتة ومنطقية. هذا التحليل يُظهر عمق وعلمية النص القرآني مقارنة بخطاب البشر.

         نقاش بعض النصوص التي أتى فيها المفرد والجمع

من المواضيع التي تثير النقاش مسألة استخدام الضمائر في القرآن الكريم، لا سيما عند الانتقال بين ضمير المفرد وضمير الجمع في نص واحد، أو في مواضع مثل قوله: إنا نحن نزلنا الذكر، حيث يُقال إن ضمير الجمع يُستخدم للتعظيم. وكيف أن الضمائر تُستخدم بدلالاتها الحقيقية دون اللجوء إلى التفسيرات المجازية مثل التعظيم.

النصوص المدروسة:

  1. النص الأول: سورة النساء (13):
    {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}
  2. النص الثاني: سورة البقرة (81):
    {بَلَىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
  3. النص الثالث: سورة المنافقون (4):
    {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ… يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}
  4. النص الرابع: سورة الأعراف (150):
    {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ…}

تحليل الضمائر في النصوص:

  1. الانتقال بين المفرد والجمع:
    • في النص الأول والثاني نجد الانتقال من المفرد إلى الجمع:
      • في سورة النساء: من يطع الله ورسوله يدخله جنات… خالدين فيها. بدأ النص بالإفراد (يطع، يدخله) ثم انتقل إلى الجمع (خالدين).
      • في سورة البقرة: من كسب سيئة… فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. بدأ النص بالإفراد (كسب، أحاطت) ثم انتقل إلى الجمع (أولئك، خالدون).

سبب الانتقال: هذا الانتقال ليس اعتباطياً أو مجازياً، بل يعود إلى طبيعة الموضوع:

  • البداية بالإفراد تُشير إلى المسؤولية الفردية عن الفعل (الطاعة أو المعصية).
  • النهاية بصيغة الجمع تُشير إلى شمولية النتيجة، حيث تُعبر عن مصير مشترك يجمع كل من ينطبق عليه الشرط. استخدام الجمع هنا يعكس التصور الجماعي للجزاء، سواء كان في الجنة أو النار.
  1. اسم الجنس: “العدو” و”الأعداء”:
    • في سورة المنافقون: هم العدو فاحذرهم: كلمة “العدو” اسم جنس يُستخدم للدلالة على الفرد والجماعة معاً. المنافقون يُعاملون ككيان موحد يحمل صفة العداوة.
    • في سورة الأعراف: فلا تشمت بي الأعداء: جاءت بصيغة الجمع للإشارة إلى أطراف متعددة تحمل العداوة.

الفرق بين “العدو” و”الأعداء”:

  • “العدو” تُستخدم كوصف عام لجماعة تتصرف ككتلة واحدة تحمل صفة العداوة.
  • “الأعداء” تُستخدم للتعبير عن وجود أطراف متعددة قد تكون مستقلة عن بعضها في عداوتها.

نقد فكرة “ضمير الجمع للتعظيم”:

  1. ضمير الجمع في القرآن:
    القرآن لا يستخدم ضمير الجمع للتعظيم المجازي، بل يُستخدم للإشارة إلى فعل أو نتيجة يشترك فيها أطراف أو وسائل متعددة. مثال ذلك:

    • قوله: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.
      • “إنا” تُشير إلى مجموعة قامت بالفعل بأمر الله وإذنه.
      • “نحن” تشمل الفاعلين والملائكة أو الآليات التي خلقها الله لتنفيذ أمره، مثل نزول الوحي.
  1. التعظيم والتفخيم في اللسان:
    فكرة أن ضمير الجمع يُستخدم للتعظيم هي تبرير لغوي تقليدي لا يستند إلى أي أسس لسانية دقيقة. في اللسان، الجمع يُشير إلى الكثرة أو الاشتراك، وليس للتفخيم المجازي. والأمثلة القرآنية تؤكد هذا:

    • عندما يُريد النص التأكيد على الله وحده، يستخدم ضمير المفرد: إني أنا الله لا إله إلا أنا.
    • استخدام ضمير الجمع يُشير إلى وجود منظومة أوسع تعمل تحت إرادة الله.
  2. الإحكام في النصوص القرآنية:
    القرآن كتاب محكم، واستخدام الضمائر فيه دقيق ومقصود. القول بأن الجمع يُستخدم للمفرد للتعظيم يُناقض هذا الإحكام، لأنه يُدخل المجاز في مواضع النصوص التي يجب فهمها بدلالاتها الحقيقية.

خلاصة:

  1. الضمائر في النصوص القرآنية تُستخدم بدقة:
    • ضمير المفرد يدل على المفرد.
    • ضمير الجمع يدل على الجمع أو كيان مشترك يحمل صفة معينة.
  2. اسم الجنس كـ”العدو” يُستخدم للإشارة إلى الفرد والجمع معاً، حسب السياق:
    • الجمع “الأعداء” يُستخدم عندما يكون الحديث عن أطراف مستقلة تحمل العداوة.
  3. فكرة “الجمع للتعظيم” ليست لسانية دقيقة:
    • ضمير الجمع يُعبر عن الاشتراك في الفعل أو النتيجة.
    • التعظيم يُعبر عنه بطرق أخرى في اللسان، مثل الصفات أو التأكيدات.
  4. القرآن كتاب محكم:
    • كل لفظ فيه يُستخدم بدقة، ويجب أن يُفهم ضمن منظومته اللسانية الحقيقية، بعيداً عن التفسيرات المجازية.