هل القرءان دستور دولة
وصحيفة المدينة في عهد النبي
يُثار جدل واسع حول طبيعة الحكم في الدين، خاصةً فيما يتعلق بعلاقته بالقانون والدولة. ينطلق هذا الجدل من سؤال جوهري: هل يمكن اعتبار النصوص الدينية دستورًا للدولة، أم أنها تمثل قيمًا عليا يستلهم منها المشرّعون قواعدهم وفقًا للزمان والمكان؟ في هذا السياق، يُطرح القرآن الكريم بوصفه كتابًا للهدى والنور وليس دستورًا قانونيًا يُفرض على المجتمعات بصيغة ثابتة. فالدستور، بطبيعته، يعبر عن تفاعل المجتمعات مع واقعها الاجتماعي والثقافي والسياسي، في حين أن القرآن يُقدّم منظومة قيمية وأخلاقية تُعتبر أساسًا مرجعيًا للتشريعات دون أن تحلّ محلها.
أولًا: الحكم في الدين لله وحده بمعناه القيمي والأخلاقي
ينطلق القرآن الكريم من مبدأ محوري في الحكم وهو أن الحكم لله وحده، كما في قوله تعالى:
“إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ“ (يوسف: 40).
لكن هذا الحكم ليس حكمًا سياسيًا أو قانونيًا وفق المفاهيم الحديثة، بل هو حكم قيمي وأخلاقي وإنساني، يُحدد معايير العدالة والحق، ويوجّه الإنسان إلى سلوك قويم قائم على العدل والإحسان والالتزام بالقيم الأساسية التي جاء بها الوحي، والتي تتجسد في الحد الأدنى من الأخلاق الإنسانية العالمية، مع التزام في الوصايا العشر التي وردت في مختلف الكتب السماوية ومنها القرآن.
إن هذه الوصايا، التي تتعلق بعبادة الله وحده، والصدق، والأمانة، واحترام حقوق الآخرين، وعدم الاعتداء، تشكل الحد الأدنى من القيم التي يجب أن تلتزم بها أي منظومة قانونية وإنسانية، لكنها لا تحدد تفاصيل إدارة الدولة، لأن ذلك يظل خاضعًا لاجتهاد البشر وفق حاجاتهم المتغيرة.
ثانيًا: القرآن كتاب هداية ونور وليس دستورًا للدولة
يخطئ من يظن أن القرآن الكريم هو “دستور الدولة”، لأن الدساتير تعكس طبيعة العلاقات الاجتماعية، وتستند إلى البنية الثقافية والسياسية والاقتصادية لكل مجتمع. أما القرآن، فهو كتاب هداية ونور، أي أنه يُرشد البشر إلى المبادئ الكبرى التي يجب أن تحكم حياتهم، لكنه لا يحدد تفاصيل نظام الحكم أو التشريعات التفصيلية التي تتغير بتغير الزمان والمكان.
فالقرآن لم يأتِ ليؤسس نظامًا قانونيًا جامدًا، بل ليضع المحاور القيمية الكبرى التي تكون مصدرًا رئيسًا لكل التشريعات والدساتير. ومن هنا، فإن القول بأن “القرآن هو دستور الدولة” ليس دقيقًا، لأن الدستور يجب أن يكون وثيقة تفصيلية تعبر عن طبيعة المجتمع وعلاقاته، بينما القرآن يمثل الإطار الأخلاقي والإنساني الذي تستلهم منه القوانين ولا تتجاوزه في جوهرها.
ثالثًا: صحيفة المدينة نموذجًا لتفاعل المبادئ الدينية مع الواقع الدستوري
لعلّ صحيفة المدينة التي وضعها النبي محمد ﷺ عند وصوله إلى المدينة تمثل أفضل مثال على هذا الفهم، فقد كانت وثيقة سياسية وتنظيمية تعكس طبيعة المجتمع في ذلك الوقت، لكنها لم تكن “نصًا مقدسًا” بل كانت اجتهادًا يستند إلى المبادئ القرآنية، مع مراعاة الظروف الاجتماعية والسياسية للسكان.
من خلال تحليل صحيفة المدينة، نجد أنها:
- قامت على مفهوم المواطنة المتساوية بين المسلمين واليهود وغيرهم.
- أكّدت على حرية العقيدة وعدم الإكراه في الدين.
- نظّمت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وفقًا للتعايش السلمي.
- أرست مبدأ العدالة بين جميع أفراد المجتمع دون تمييز ديني أو عرقي.
رابعًا: الدساتير البشرية تستند إلى المبادئ القرآنية دون أن تتطابق معها
بما أن القرآن يمثل الإطار القيمي والأخلاقي الأعلى، فإن أي دستور بشري يجب أن يُبنى على محاور القرآن الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية، لكنه لا يمكن أن يكون مجرد نقل حرفي لنصوص القرآن. بل يجب أن يكون دستورًا ديناميكيًا يعبر عن تطور المجتمع وظروفه، مع الالتزام بالمبادئ القرآنية الكبرى مثل العدل، الرحمة، التكافل، وحرية الإنسان في الاعتقاد والممارسة.
لذلك، فإن أي نظام قانوني حديث يمكن أن يستلهم من القرآن كمصدر رئيس، إلى جانب مصادر أخرى لا تتناقض معه، مثل الأعراف الاجتماعية والقوانين الدولية التي تحترم القيم الإنسانية المشتركة.
الخاتمة
الحكم في الدين لله وحده، لكنه حكم قيمي وأخلاقي، وليس نظامًا سياسيًا أو قانونيًا جامدًا. فالقرآن جاء ليكون مصدر هداية ونور، وليس “دستور دولة”، لأن الدستور يجب أن يكون نابعًا من طبيعة المجتمع وتطوره الاجتماعي والسياسي، مع التزامه بالمحاور الأخلاقية والإنسانية الكبرى التي أكدها القرآن.
ويُقدّم نموذج صحيفة المدينة مثالًا على كيفية استلهام المبادئ الدينية في وضع تشريع يتناسب مع المجتمع، دون أن يكون ذلك التشريع نصًا ثابتًا. لذلك، لا يمكن فرض نظام قانوني موحد مستمد بالكامل من نصوص دينية دون مراعاة التطورات البشرية، بل يجب أن تكون الدساتير مستوحاة من القيم القرآنية دون أن تتطابق معها حرفيًا.
التوصيات
- التفريق بين القيم القرآنية المطلقة وبين القوانين التي يجب أن تكون متغيرة بتغير الزمن.
- اعتبار القرآن مصدرًا رئيسًا للتشريع، لكنه ليس النص القانوني الحاكم بشكل تفصيلي.
- تطوير دساتير حديثة تستند إلى القيم الإنسانية والأخلاقية للقرآن مع مراعاة خصوصيات كل مجتمع.
- دراسة صحيفة المدينة كنموذج لتطبيق المبادئ القرآنية في الواقع القانوني والاجتماعي دون أن يكون ذلك إلزامًا جامدًا.
بهذا الفهم، يمكن تحقيق توازن بين القيم الدينية والثوابت الإنسانية وبين التشريعات القانونية التي تخدم المجتمعات في تطورها المستمر.
تُعرف صحيفة المدينة (أو دستور المدينة) بأنها أول وثيقة سياسية كتبها النبي محمد ﷺ بعد هجرته إلى المدينة، حيث نظمت العلاقات بين المسلمين والمهاجرين والأنصار، وبين اليهود وغيرهم من سكان المدينة من المشركين والأعراب. تهدف هذه الوثيقة إلى تأسيس نظام تعايش سلمي داخل المدينة على أساس الحقوق والواجبات المشتركة.
نص الوثيقة ومضمونها:
تتكون الوثيقة من عدة بنود، وتُعدّ بمثابة عقد اجتماعي ينظم العلاقات بين مختلف الفئات في المدينة. ومن أبرز بنودها:
- وحدة الأمة:
- “إنهم أمة واحدة من دون الناس”، أي أن سكان المدينة جميعًا، بمن فيهم المسلمون واليهود وغيرهم، يشكلون كيانًا سياسيًا واحدًا رغم اختلافاتهم الدينية.
- حقوق اليهود وواجباتهم:
- “وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”، أي أن لليهود حقهم في ممارسة دينهم دون إكراه، مع الالتزام بالعيش المشترك.
- واجب الدفاع المشترك:
- “وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة”، أي أن جميع الأطراف يجب أن تدافع عن المدينة ضد أي عدوان خارجي.
- الأمن الجماعي:
- “وإنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا ولا يحول دونه على مؤمن”، أي أن الأطراف الموقعة على الوثيقة لا يجوز لها تقديم حماية لأعداء المسلمين.
- المرجعية في النزاعات:
- “وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله”، مما يعني أن الفصل في النزاعات يكون بموجب أحكام النبي محمد.
- حرية التنقل والمشاركة الاقتصادية:
- الوثيقة لم تفرض قيودًا على المعاملات الاقتصادية، بل ضمنت حرية العمل والتجارة بين المسلمين واليهود.
- حماية المدينة من الاعتداء الخارجي:
- نصت الوثيقة على التعاون العسكري في الدفاع عن المدينة ضد أي عدوان خارجي.
- منع الخيانة والتآمر الداخلي:
- حذرت الوثيقة من الغدر والخيانة وأكدت أن العقوبات ستُفرض على من يخون العهد.
ثانيًا: البنود الدستورية المستخلصة من الصحيفة
- المادة 1: جميع سكان الدولة، بمختلف دياناتهم وقبائلهم، يشكلون كيانًا سياسيًا واحدًا.
- المادة 2: لكل فرد الحرية في اعتناق دينه وممارسة شعائره، دون فرض أي دين عليه.
- المادة 3: جميع الأفراد متساوون أمام القانون، ولا يجوز التمييز بينهم على أساس الدين أو العرق أو النسب.
- المادة 4: على جميع الأطراف الالتزام بالعهود والعقود، وأي إخلال بها يُعرّض صاحبه للمساءلة.
- المادة 5: لا يجوز لأي فرد أو جماعة الاعتداء على أفراد آخرين داخل الدولة، ومن يفعل ذلك يُحاسب قانونيًا.
- المادة 6: على جميع الجماعات داخل الدولة التعاون في الدفاع عنها ضد أي تهديد خارجي.
- المادة 7: يحظر على أي فرد أو جماعة تقديم الدعم العسكري أو المالي لأي قوة خارجية ضد الدولة.
- المادة 8: لا يجوز لأي طرف التحريض على النزاعات أو الفتنة داخل الدولة.
- المادة 9: لكل فرد حق الإقامة والتنقل داخل الدولة ما لم يشكل تهديدًا للأمن العام.
- المادة 10: لكل طائفة الحق في إدارة شؤونها الداخلية، ما لم يؤثر ذلك على استقرار الدولة.
- المادة 11: عند وقوع نزاع بين الأطراف، يكون الفصل فيه بالرجوع إلى السلطة الحاكمة.
- المادة 12: يجب على الدولة توفير الحماية الكاملة للأفراد والجماعات الذين ينضمون إليها.
- المادة 13: يمنع إيواء أو دعم أي مجرم أو خائن، ومن يفعل ذلك يتحمل عواقب أفعاله.
- المادة 14: لا يجوز إبرام معاهدات أو هدنات منفردة بين أي طرف داخل الدولة وجهات خارجية دون موافقة جماعية.
- المادة 15: السلم والأمن داخل الدولة من الأولويات، ويجب أن يلتزم به الجميع.
أهمية الوثيقة:
- أول دستور مدني إسلامي: يُعدّ هذا الدستور نموذجًا مبكرًا في التشريع السياسي والتنظيم الاجتماعي.
- التعايش السلمي: عززت الصحيفة قيم التسامح والتعايش بين الأديان.
- الاعتراف بالتعددية: ضمنت لكل جماعة دينية استقلالها في العقيدة والعبادات.
- العدل والمساواة: ساوت بين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات، مع الاحتفاظ لكل طرف باستقلاله الديني. هذه الوثيقة تُعتبر نموذجًا مبكرًا في إدارة التعددية الدينية في مجتمع واحد، وقد استمرت مبادؤها كأساس للتعامل بين المسلمين وغيرهم في مختلف الفترات اللاحقة.
صحيفة المدينة (دستور المدينة)
- هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
- إنهم أمة واحدة من دون الناس.
- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
- وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
- وبنو ساعدة على ربعتهم، وبنو الحرث على ربعتهم، وبنو جشم على ربعتهم، وبنو النجار على ربعتهم، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، وبنو النبيت على ربعتهم، وبنو الأوس على ربعتهم، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
- وإن المؤمنين لا يتركون مفرحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
- وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم.
- ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن.
- وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
- وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
- وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
- وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا.
- وإن المؤمنين يبيئون على من بينهم من فتك، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بمؤمن إلا بإذنه.
- وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن.
- وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
- وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد.
- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
- وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
- وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم.
- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد.
- وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا.
- وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
- وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
- وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
- وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى هذا وأبره.
- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
- وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
- وإن كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
- وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم.
وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله.
اضف تعليقا