هل مقولة الحمد لله حتى يرضى صواب       

يُعرض مفهوم “رضا الله” في الوعي الديني وكأنه حالة نفسية أو شعورية تتغير بتغير أفعال العباد، فيقال إن الله يرضى عن المؤمنين إذا أحسنوا، ويغضب إذا أساؤوا، وكأن الله يتأثر بأفعال المخلوقات ويتغير حاله وفقًا لها. غير أن التدبر القرآني، حين يُقرأ بمنهج لساني ومنطقي صارم، يُظهر أن الرضا ليس حالة نفسية أو شعورية عند الله، بل هو تحقق سنني موضوعي يرتبط بمدى انسجام الإنسان مع النظام الإلهي. فلا يصح القول إن الله ينتظر فعلًا معينًا ليشعر بالرضا، لأن ذلك يتناقض مع مفهوم الغنى المطلق الذي أثبته القرآن: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾ (الزمر: 7). فلو كان الرضا عند الله حالة تتغير بحسب أفعال العباد، لكان ذلك يعني أن أفعالهم تؤثر فيه، وهذا لا يستقيم مع مفهوم الألوهية التي لا تتغير ولا تتأثر بشيء خارج عنها.

من هنا، يجب إعادة النظر في مفهوم الرضا على أنه ليس استجابة عاطفية من الله، بل هو نتيجة قانونية تتحقق عندما يسير الإنسان وفق النظام الإلهي الكوني والتشريعي. فالقرآن يعبر عن رضا الله بعبارات تشير إلى حالة موضوعية تتحقق وفق السنن، كما في قوله: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ (المائدة: 119). هذا التعبير لا يعني أن الله شعر بالرضا نتيجة لفعل العباد، بل أن العباد وصلوا إلى حالة من التوافق التام مع نظام الله، ونتيجةً لذلك تحقق ما يُسمى “رضا الله”. فالآية لم تقل “أرضاهم عني”، مما يعني أن الله لم يتغير حاله، بل هم الذين دخلوا في حالة الانسجام مع سننه.

مفهوم الرضا في القرآن يجب أن يُفهم ضمن منظومة الأسماء الحسنى، حيث أن الله لم يسمِّ نفسه “العدل”، بل أمر العباد بالعدل، مما يعني أن حكمه ليس محكومًا بمبدأ العدل فحسب، بل يتجاوزه إلى الحكمة والعزة والرحمة والعلم. العدل يكون مقياسًا بشريًا لتقييم الإنصاف، لكنه ليس القاعدة التي تحكم تصرفات الله، لأن حكم الله قائم على منظومة أوسع تشمل الحكمة التي تضع كل شيء في مكانه وفق علم شامل، والرحمة التي تتجاوز الإنصاف الصرف، والعزة التي تضمن أن حكمه لا يتأثر بأحد. هذا يعني أن رضا الله لا يُفهم من منظور العدل المجرد، بل من منظور تحقيق نظامه الكوني الذي يجمع بين الحكمة والرحمة والعلم والعزة، مما يجعله أعلى من مجرد “إعطاء كل ذي حق حقه”، كما في المفهوم البشري للعدل.

عند دراسة العلاقة بين “الحمد” و”الرضا”، نجد أن بعض العبارات الشائعة مثل “الحمد لله حتى يرضى” تعكس سوء فهم لطبيعة الحمد في القرآن. فالحمد ليس وسيلة لتحقيق الرضا، بل هو إقرار بأن كل شيء في الوجود محكوم بقوة الله ونظامه. فالقرآن لم يربط الحمد بتحقيق رضا الله، بل جعله حقيقة قائمة بذاتها، كما في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة: 2). في حين أن الرضا هو تحقق لسنن إلهية وفق شروط موضوعية، فليس منطقياً ربط الحمد به وكأنه وسيلة لجلبه. لأن ذلك يوحي بأن الرضا غير متحقق إلا بفعل العبد، وهذا يتنافى مع كون النظام الإلهي محكمًا بذاته وغير متوقف على اعتراف البشر به. الحمد يعبر عن الاعتراف الكوني بسيطرة الله وهيمنته على كل شيء، وليس استرضاءً لله كما قد يُفهم خطأ.

لفهم العلاقة بين الحمد والشكر، يجب تحليل كل منهما وفق المنهج اللساني. فالحمد يتكون من الأصوات (ح، م، د)، حيث الحاء تدل على حركة انتقالية متغيرة ومنظمة، والميم تدل على ضم الحركات وجمعها في نسق واحد، والدال تدل على دفع نهائي وقوي لهذا النسق. هذا يعني أن الحمد يعبر عن حالة كلية تشمل نظام الوجود، حيث تتجمع الحركات الانتقالية كلها في قوة دافعة واحدة تعود إلى الله. بينما الشكر يتكون من الأصوات (ش، ك، ر)، حيث الشين تدل على انتشار وتوسع، والكاف تدل على التمكن والاستقرار، والراء تدل على التكرار المستمر. مما يعني أن الشكر مرتبط بإدراك الإنسان لنفع خاص واستجابته له، وليس بنظام كوني شامل مثل الحمد. وهذا يفسر لماذا يُقال “الحمد لله” دائمًا، بينما يمكن قول “شكرًا” للناس أيضًا، لأن الحمد متعلق بالنظام الإلهي الشامل، بينما الشكر هو اعتراف خاص بفعل نافع تحقق للفرد.

في هذا السياق، نجد أن مفهوم الرضا في القرآن لا يرتبط بالحمد أو الشكر كأفعال بشرية، بل هو حالة تتحقق لمن يسير وفق نظام الله. ولو كان الله ينتظر شيئًا من البشر ليشعر بالرضا، لكان ذلك نقصًا في ذاته. فالآية التي قال فيها موسى عليه السلام ﴿قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ (طه: 84)، يجب فهمها في سياقها الدقيق. فكلمة “رب” هنا لا تعني الله مباشرة، بل تعني الرب الذي يتحدث مع موسى في هذا السياق، أي الجهة التي ترشده وتوجهه وفق مهمته النبوية.  فيوجد فرق بين الله المطلق رب العالمين الذي يعني الجهة الحاكمة والمدبرة، والذي كلم موسى بقوله {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }طه 14 ، والرب الذي كلم موسى فيما يتعلق بالحدث والنبوة ،فإن موسى هنا يتحدث إلى “ربه” في سياق التكليف، وليس إلى الله في ذاته. ولو كان “الرب” هنا يعني الله مباشرة، لكان ذلك يتعارض مع مفهوم أن الله ليس بحاجة إلى شيء من موسى حتى يرضى، بل أن موسى يسعى لتحقيق حالة الانسجام مع النظام الذي وضعه له ربه في مهمته.

مما سبق، يتضح أن الرضا ليس حالة شعورية عند الله، ولا يعني أن الله يتغير أو يتأثر بأفعال العباد، بل هو حالة تتحقق عندما يصل الإنسان إلى التوافق مع السنن الإلهية. فالله لا ينتظر من أحد أن يحمده حتى يرضى، ولا يشترط الشكر لتحقيق الرضا، بل هذه مفاهيم بشرية لا تتناسب مع الكمال الإلهي. أما قول “الحمد لله حتى يرضى” فهو تعبير غير دقيق، لأنه يوحي بأن الرضا غير متحقق إلا بفعل الإنسان، بينما الحمد في ذاته إقرار بحقيقة قائمة لا تتغير.

إذا كان مفهوم الرضا في القرآن يعبر عن تحقيق نظام الله، وليس عن استجابة عاطفية، فإن فهم هذا المفهوم يؤدي إلى رؤية أكثر دقة لطبيعة العلاقة بين الله وعباده. فالإنسان لا يسعى إلى “إرضاء” الله كما يُرضي شخصًا آخر، بل يسعى للوصول إلى تحقيق السنن التي وضعها الله، والتي عند تحققها يقال إن الله “رضي” عنه. فالرضا ليس شعورًا يخص الله، بل هو وصف لحالة يحققها العبد حين يتماشى مع النظام الإلهي. بهذا، نبتعد عن التصورات العاطفية ونقترب من الفهم القرآني العميق، الذي يجعل العلاقة بين الله وعباده مبنية على السنن والقوانين، لا على المشاعر والانفعالات.