“الرَّحْمَٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ عَلَّمَهُ ٱلْبَيَانَ”
إن تحليل النص القرآني يقتضي فهمًا دقيقًا لدلالات الألفاظ وعلاقاتها داخل النص، مع الابتعاد عن التفسيرات التقليدية التي تفرض تصورات مسبقة. في هذه الدراسة، سنعتمد المنطق اللساني التحليلي لتفكيك بنية الآية ومعانيها استنادًا إلى السياق القرآني ذاته.
تحليل كلمة “الرَّحْمَٰنُ” ودلالاتها البنيوية
أولًا: البنية الصرفية والدلالية
- “الرَّحْمَٰنُ” على وزن فَعْلَان، وهو صيغة تدل على حصول الأفعال وفق منظومة سننية ثنائية توليدية.
- هذا الوزن في اللسان العربي يعبر عن حالة ديناميكية دائمة الحدوث وغير جامدة، فهو يشير إلى نظام تشغيلي يؤثر ويُنتج بشكل مستمر.
- دلالة الوزن تعني أن “الرَّحْمَٰنُ” ليس وصفًا جامدًا، بل مفهوم يُنتج أفعالًا وفق قانون محدد، أي أن “الرَّحْمَٰنُ” ليس صفة راكدة بل قدرة فاعلة بقوانين مستمرة تنتج ظواهر وعلامات.
“عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ” بين التعليم والعلامة
أولًا: إشكالية الربط بين “علم” و”التعليم التقليدي”
- في الخطاب القرآني، “التعليم” لا يعني بالضرورة نقل المعرفة لكائن واعٍ، بل قد يكون مرتبطًا بإظهار علامات ودلائل.
- السياق هنا لم يذكر أن الإنسان هو متلقي التعليم في هذه الجملة، مما ينفي التفسير القائل بأن التعليم هنا متعلق بتلقي الإنسان للوحي.
ثانيًا: “علم” هنا من العلامة وليس التعليم المعرفي
- إذا عدنا إلى الأصل الدلالي، نجد أن “التعليم” في هذه الصياغة مرتبط بوضع العلامات وليس نقل المعرفة.
- “القرآن” في هذا السياق لم يُسند إلى الإنسان، بل هو موضوع مستقل، مما يعني أن تعليمه ليس متعلقًا بالبشر بل بذاته.
- إذًا، “عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ” تعني أنه وُضع بعلامات واضحة في النظام الكوني، أي أن آياته مرتبطة بعلامات سننية في الوجود، وهو ما يتجلى في الآيات الكونية.
“خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ” لا تفيد الترتيب الزمني مع “عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ”
أولًا: تفكيك العلاقة بين الأفعال في الآية
- الخطأ الشائع هو افتراض أن “عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ” حصل قبل “خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ” بناءً على الترتيب اللساني، بينما السياق لا يفيد هذا الترتيب الزمني.
- في القرآن، ترتيب الأفعال لا يعني بالضرورة التسلسل الزمني، بل قد يكون ترتيبًا دلاليًا أو وظيفيًا.
- خلق الإنسان هنا ليس متبوعًا بتعليم القرآن له، بل هو فعل مستقل.
ثانيًا: العلاقة بين القرآن والإنسان
- لا يوجد ما يدل على أن “علم القرآن” حصل قبل خلق الإنسان، فالتعليم هنا مرتبط بسنن كونية، والقرآن هو كتاب موضوع بعلامات سننية في الكون، وليس كتابًا نزل على الإنسان منذ بداية خلقه.
“عَلَّمَهُ ٱلْبَيَانَ” ودلالات البيان
أولًا: من هو المفعول به في “عَلَّمَهُ”؟
- الضمير “ه” يعود إلى الإنسان، مما يعني أن التعليم هنا يخص الإنسان وليس القرآن.
- هنا ننتقل إلى معنى آخر لـ “علم”، وهو التعليم المتعلق بالبيان، أي تمكين الإنسان من استخراج المعاني والتفريق بين الأشياء من خلال منظومة البيان.
ثانيًا: “البيان” كمنظومة تمييز بين العلامات
- “البيان” في النص لا يعني مجرد القدرة على النطق، بل هو قدرة على تحليل وتفسير العلامات الموجودة في النظام الكوني.
- البيان هو القابلية لفهم منظومة العلامات التي وضعها القرآن في الكون، وبالتالي فإن تعليم البيان يعني منح الإنسان القدرة على إدراك تلك العلامات وتحليلها.
النتائج والاستنتاجات
- “الرَّحْمَٰنُ” ليس وصفًا جامدًا، بل منظومة سننية توليدية تقوم بإنتاج الأفعال وفق قوانين تشغيلية محددة.
- “عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ” لا تعني نقل المعرفة لكائن واعٍ، بل وضع القرآن بعلامات كونية في الوجود، مما يجعله مندرجًا في السنن الكونية.
- “خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ” لا يأتي بعد “عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ” زمنيًا، بل هو فعل مستقل، مما ينفي أن القرآن كان موجودًا قبل الإنسان بالضرورة.
- “عَلَّمَهُ ٱلْبَيَانَ” تخص الإنسان، وتعني تمكينه من إدراك العلامات والتمييز بين الظواهر، مما يجعله قادرًا على قراءة نظام العلامات الكوني.
- الآية تؤكد أن القرآن ليس مجرد نص يُتلى، بل هو منظومة علامات كونية تُقرأ عبر البيان الذي مُنح للإنسان.
هذا الكلام يثبت أن الفهم التقليدي الذي يربط “تعليم القرآن” بتلقي الإنسان للوحي هو اختزال لمعاني النص، وأن التعليم هنا لا علاقة له بتعليم الإنسان مباشرة، بل بوضع القرآن في نظام العلامات الكونية، بحيث يكون متاحًا لمن يملك البيان لفهمه.
اضف تعليقا