الإسلام السياسي
في زمن تشتد فيه الدعوات إلى تجزئة الرسالة الدينية وتعدد صورها وفقًا للأيديولوجيات والمناهج السياسية المختلفة، برزت ضرورة إعادة النظر في المفهوم الحقيقي للدين الإسلامي، وفهمه كنظام إلهي شامل لا يقبل التجزئة أو الإضافة التي توحي بتعدد ذوات الدين. ومن هنا تأتي أهمية إعادة التأكيد على أن الدين هو نظام متكامل من القيم والمبادئ الثابتة بحدها الإنساني التي أنزلها الله تعالى لعباده، لا يُنسب إلى بشر مهما بلغوا من العظمة، بل يُنسب وحده إلى الخالق.
أولاً: تعريف الدين كنظام إلهي متكامل
الدين هو النظام كما في قوله “ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك” وفي ضوء النصوص القرآنية يأخذ بُعدًا كونيًا وإنسانياً ومُلهمًا؛ فهو نظام هداية شامل ويقوم الدين على العقلانية والإنسانية والسلام والعدالة والمساواة والتعايش والتعاون والقيم والأخلاق.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13
إن الدين الإسلامي، بهذا المعنى، هو النظام الذي لم يُبتغَ منه إلا وحدانيته واستقلاليته، فلا يجوز نسبته إلى أحد من خلقه، حتى وإن كان نبياً أو رسولاً، إذ أن نسب الدين إلى شخص ما، ينطوي على تشويه معانيه الأصيلة. فالرسالة الإلهية التي أوحى الله بها إلى جميع الأنبياء تحمل مضمونًا واحدًا ومتكاملاً، كما يؤكد القرآن الكريم في قوله:
{يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ }النحل2
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ” (آل عمران: 19)
وبالتالي فدين النبيين وأتباعهم هو الإسلام
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }البقرة132
{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }البقرة136
{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }الإسراء9
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }الأنعام161
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }الروم30
ونزل القرءان مكملا للدين الإسلامي بكتبه السابقة ولم يجعل معها قطيعة ولا إقصاء فصار القرءان بذلك هو الكتاب المكمل والجامع لما سبق
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً }المائدة3
وهذا اللفظ يؤكد أن الدين الذي ارتضاه الله لعباده هو الإسلام، الذي هو دين الهداية والرحمة{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107، لا يقبل التجزئة أو الإضافة التي تؤول إلى تباين صور الدين وتعددها. وبالتالي لا يصح القول بتعدد الأديان السماوية
ثانياً: وحدانية الدين ورفض نسبه للإنسان
يرتكز فهم الدين الإسلامي على مبدأ أن الدين لله وحده، ولا يصح نسبته إلى أي بشر مهما بلغوا من العلم أو التقوى. فهذا التوحيد في أصل الدين هو الذي يضمن وحدة الرسالة التي جاء بها الأنبياء جميعًا، سواء كان ذلك في زمن إبراهيم أو موسى أو عيسى أو محمد. إن هذا التوحيد الديني يؤكد أن الدين ليس ملكًا لأحد، بل هو دين الله يعلو فوق الاختلافات الزمنية والمكانية، ولا يجوز اختزاله في صفات مثل “سياسي” أو “عقلاني” أو “جهادي أو قتالي أو مالكي أو شافعي أو سني أو شيعي”؛ أو دين إبراهيمي لأن هذه الصفات تُفترض أنها تضيف إلى الدين أبعادًا جديدة، مما يعني ضمنيًا وجود دين آخر يفتقر إلى هذه الصفات، وهذا بالطبع تناقضٌ صريح مع وحدة الدين الإلهي، وينبغي استخدام هذه الصفات على أصحابها فنقول جماعة القتال أو الجهاد أو المذهب المالكي أو فرقة السنة أو فرقة الشيعة.
ثالثاً: نقد مصطلح “الإسلام السياسي” وتعددية التسميات
إن استخدام مصطلح “الإسلام السياسي” يوحي بانقسام الذات الإسلامية إلى أجزاء، في صورة ما، مما يفتح المجال لتعدد التسميات مثل “الإسلام العقلاني”، “الإسلام السني”، “الإسلام الشيعي” وغيرها. وهذه التسميات المتباينة تدل على تصور مفارقة زائفة بين أحد أوجه الدين وجوهًا أخرى، مما يقوض الوحدة الجوهرية للدين الذي هو رسالة الله إلى الناس جميعا. إن الإسلام، بذاته، يجمع بين كافة القيم والمبادئ التي تدعو إلى السلام والعقلانية والإنسانية، ولا يحتاج إلى فصل أو تمييز ظاهري لإثبات هذه الصفات؛ بل إن استخدام أي صفة بعد اسم الإسلام، كقولنا “الإسلام السياسي”، يؤدي إلى انطباع خاطئ بوجود إسلام غير سياسي، في حين أن السياسة بوصفها إدارة شؤون الدولة وتنظيم المجتمع تقع ضمن إطار وظيفي إداري يتكامل مع قيم الدين دون أن تكون هوية دينية بذاتها، والسياسة وظيفة تقوم بها الحكومة وليس الدين .
رابعاً: الحنيفية كصفة للمسلم لا للإسلام
إنَّ مصطلح “الحنيف” هو وصف ينبغي أن يلتزم به المسلم الذي يتبع منهج الوحدانية لله وفق منظومة منطقية تقوم على محور الثابت والمتغير والابتعاد عن الشرك الذي يقوم ابتداء على نفي الحنيفية وإتباع الباطل وإضفاء صفة الجمود للفكر وحركة الناس وتغييب الجانب المتغير ، وهو ما جاء تمييزًا بين ميول الحق والضلال. وقد أُطلقت هذه الصفة على النبي إبراهيم عليه السلام وصار بها إماما للناس
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً }النساء125
وفي ذلك دلالة على استقامته في فكره بصورة حنيفية تقوم على محور الثابت والمتغير، ويقابل الحنيفية ملة اليهود والنصارى
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }البقرة120، ولذلك ينبغي العلم أن اليهودية والنصرانية ملل وليست ديناً ولاعلاقة لها بأتباع النبي موسى أو عيسى فهم مسلمون.
وهذه الملل انحراف عن الحنيفية وطريقة جاهلية في التعامل مع الدين والحياة . لذا فإن “الحنيفية” هي منهج وفكر ينطبق على المسلمين في طريقة تفكيرهم وتعاملهم مع الدين والعلم والحياة، وليس اسمًا لدينٍ مستقل، بل هو صفة تميز المسلم الصادق العقلاني الذي ينشد الحق والعدل في كل مجالات حياته.
وعندما ندعو لاتباع الملة الحنيفية الذي إمامها النبي إبراهيم ينبغي أن نفرق بين مقولة الملة الحنيفية والدين الإسلامي، فنحن لا ندعو لدين جديد ولا ننسب الإسلام للنبي إبراهيم دون غيره، لأن دين النبي إبراهيم هو الإسلام مثل كل النبيين، ودعوتنا تلك طاعة لله عندما أمرنا أن نتبع الملة الحنيفية
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }البقرة135
خامساً: السياسة وظيفة الدولة وليس وظيفة الدين
من المهم أن نفرق بين مهمة الدين التي ترتكز على توجيه الإنسان إلى الخير والحق، وبين الوظيفة السياسية التي هي إدارة شؤون المجتمع وتنظيم العلاقات بين أفراده وفق دستور ومبادئ وقوانين إدارية تهدف إلى حماية المجتمع والعناية به وتحقيق العدل والمساواة والمحافظة على السلم الاجتماعي والأمن والتنمية. إن القرآن الكريم عرض الدين كـ “هدى ونور” موجه للناس جميعًا، وليس لفئة أو جهة سياسية معينة
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً }الأعراف158
وهذا يستدعي ضرورة عدم استغلال الدين في تبرير أنظمة استبدادية أو كهنوتية تُستخدم لتخدير الشعوب وإرساء سلطات غير مشروعة باسم الدين.
سادساً: ضرورة الالتزام بتسميات دقيقة تحفظ وحدة الرسالة
إن استعمال مسميات تحمل اسم الدين مع إضافات مثل “السياسي” يُعد تشويهًا للمفهوم الإلهي الذي لا يتجزأ إلى أوجه أو أجزاء. إذ ينبغي استخدام اسم “الإسلام” فقط عند الحديث عن الدين بكل ما يحمله من معانٍ سامية، وأن تقتصر المسميات الأخرى على الأحزاب أو الجماعات ذات الطابع الاجتماعي والثقافي أو الإصلاحي، التي تعمل في إطار بناء الوطن والنهضة به دون المساس بوحدة الرسالة الدينية. إن استغلال الدين في الأوساط السياسية يفضي إلى تقسيم المجتمع وتزوير الصورة الحقيقية للدين، مما يتعارض مع النصوص القرآنية التي تدعو إلى الوحدة والعدالة.
ولذلك لاخوف على الدين الإسلامي كدين من التحريف أو الانقراض أو استخدام شعارات مضللة مثل مقولة الأديان الإبراهيمة أو الإسلام السياسي لأن الدين يقوم على الفطرة وموافقته للمنطق والإنسانية ، ومن يرفض الدين الإسلامي ينتحر فكريا ويصير مجرما لأنه لا يمكن لإنسان عاقل أن يرفض الفكر المنطقي والقيم والأخلاق لأن الحياة لا تستقيم دونها وبالتالي يفقد إنسانيته، وهذا لا ينفي تحريف فهم الإسلام عند المسلمين أو سوء تطبيقهم، ولذلك ينبغي أن نفرق بين مفهوم الدين ومفهوم التدين فمصدر الدين هو القرءان بينما التدين هو فهم المسلمين أو تاريخهم وهو منتج بشري غير ملزم لأحد وليس مصدراً للدين ويدرس تاريخياً.
{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }الإسراء9
{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ }البقرة138
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }الروم30
خاتمة
يتبين لنا من خلال ما سبق أن الإسلام، كنظام إلهي شامل، هو دين الله الذي لم يُبتغَ منه إلا وحدانيته واستقلاله عن كل تحريف أو تجزئة. إن نسب الدين إلى بشر، حتى وإن كانوا أنبياء، أو استخدام مصطلحات مثل “الإسلام السياسي” يُضلل معاني الرسالة الدينية ويقود إلى انقسام يصب في مصلحة الأنظمة الاستبدادية والكهنوتية لذلك علينا أن نلتزم بالقرآن الكريم الذي أكد:
“إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ” ونتعامل معه وفق الملة الحنيفية
وأن نرتقي بفهمنا للدين إلى مستوى يحررنا من التسميات المغلوطة، لندرك أن الدين الإسلامي هو رسالة هداية ونور شاملة تجمع بين العقل والإنسانية والسلام، وأن السياسة تبقى وظيفة الحكومة التي تنظم شؤون المجتمع وفق قيم أخلاقية راسخة مستمدة من هذا الدين الشامل. ومن هنا يجب علينا منع استعمال أي تسمية تُحرف معنى الإسلام، وضمان أن تبقى رسالته خالصة للهداية والإصلاح والنهضة لبناء مجتمع يقوم على التعايش والتماسك والتعاون.
اضف تعليقا