هل يسعى أردوغان لإعادة بناء الإمبراطورية العثمانية
تُثار بين الحين والآخر نقاشات حول طموح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة بناء نفوذ عثماني جديد، خصوصًا في مناطق كانت خاضعة للسلطنة العثمانية، مثل بلاد الشام وأوروبا الشرقية. يُنظر إلى هذه الفرضية من زوايا مختلفة، فالبعض يعتبرها مشروعًا قائمًا على استراتيجيات واقعية، بينما يراها آخرون مجرد خطاب شعبوي يُستغل لأغراض داخلية وخارجية. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مدى واقعية هذا الطموح ومدى انسجامه مع السياسة التركية الفعلية.
أولًا: قراءة تاريخية – هل هناك امتداد عثماني معاصر؟
عند الحديث عن إعادة بناء النفوذ العثماني، لا بد من فهم الإطار التاريخي للإمبراطورية العثمانية، التي امتدت عبر مناطق شاسعة من الشرق الأوسط، والبلقان، وشمال إفريقيا. غير أن انهيارها بعد الحرب العالمية الأولى أدى إلى نشوء الدول القومية الحديثة، بما في ذلك الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك على أسس قومية علمانية، بعيدًا عن النهج الإمبراطوري العثماني.
لكن منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، بدأت تركيا في إعادة توظيف الإرث العثماني في خطابها السياسي، خصوصًا في عهد أردوغان، الذي يوظف مصطلحات مثل “الوطن الأزرق” و”تركيا الكبرى” لتعزيز صورة بلاده كقوة إقليمية كبرى.
ثانيًا: السياسة الخارجية التركية – هل تعكس مشروعًا عثمانيًا؟
- التدخل في سوريا والعراق
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، لعبت تركيا دورًا محوريًا في دعم الفصائل المعارضة، إضافة إلى تدخلها العسكري المباشر عبر عمليات “درع الفرات” (2016) و”غصن الزيتون” (2018) و”نبع السلام” (2019)، حيث فرضت سيطرة على أجزاء من الشمال السوري.
لكن هذه التدخلات لم تأتِ في سياق “إعادة إحياء العثمانية”، وإنما وفق اعتبارات أمنية واقتصادية وسياسية، أهمها:
- مواجهة خطر الأكراد الذين تعتبرهم أنقرة تهديدًا وجوديًا لأمنها القومي.
- تأمين حدودها ضد الجماعات المسلحة.
- الضغط على النظام السوري لتحقيق مكاسب سياسية.
- توسيع النفوذ التركي عبر بوابة الاستثمارات وإعادة الإعمار.
- التوجه نحو البلقان وأوروبا الشرقية
تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها في البلقان عبر:
- الاستثمار الاقتصادي والمساعدات التنموية، خاصة في ألبانيا والبوسنة وكوسوفو.
- دعم الجاليات المسلمة في المنطقة لتعزيز تأثيرها الثقافي.
- توظيف الإرث العثماني في خطابها السياسي والديني لتشكيل لوبي داعم.
لكن نفوذ تركيا في البلقان يواجه عقبات كبيرة، مثل المنافسة مع الاتحاد الأوروبي وروسيا، إضافة إلى محدودية الأدوات الاقتصادية التركية مقارنة بالقوى الكبرى.
- الطموح في البحر المتوسط
شهدت السنوات الأخيرة تصاعد التوتر بين تركيا واليونان وقبرص حول موارد الغاز في شرق المتوسط. تعتبر أنقرة هذه المنطقة امتدادًا طبيعيًا لنفوذها، وهو ما دفعها لتوقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع حكومة الوفاق الليبية، لتعزيز موقعها الإقليمي.
ثالثًا: هل هناك مشروع عثماني حقيقي أم مجرد خطاب سياسي؟
رغم استخدام أردوغان للرمزية العثمانية في خطابه السياسي، إلا أن سياساته تعكس براغماتية قائمة على تحقيق المصالح القومية التركية، وليس إعادة بناء الإمبراطورية العثمانية. هناك عدة عوامل تعزز هذا الطرح:
- الطبيعة القومية للدولة التركية: الدولة الحديثة التي أسسها أتاتورك قائمة على القومية التركية، وليس على فكرة الإمبراطورية متعددة القوميات.
- التحديات الإقليمية والدولية: إعادة بناء نفوذ عثماني في سوريا والعراق وأوروبا الشرقية أمر مستبعد في ظل التوازنات الدولية الحالية، خصوصًا مع وجود روسيا والغرب كقوى كبرى في المنطقة.
- الأدوات الاقتصادية المحدودة: على عكس الإمبراطورية العثمانية التي كانت قوة اقتصادية كبرى، تعاني تركيا اليوم من أزمة اقتصادية متفاقمة تعيق قدرتها على توسيع نفوذها بشكل فعلي.
- التحولات السياسية الداخلية: تركيا ليست دولة ذات نظام استبدادي مطلق، وهناك معارضة داخلية قوية تحدّ من قدرة أردوغان على تنفيذ مشاريع توسعية طويلة الأمد.
خاتمة
بناءً على المعطيات السابقة، يمكن القول إن الحديث عن إعادة بناء الإمبراطورية العثمانية في سياق السياسة التركية الحديثة هو في الغالب جزء من خطاب سياسي داخلي يُستخدم لتعزيز شعبية النظام الحاكم. أما على أرض الواقع، فإن سياسات تركيا الخارجية تحكمها اعتبارات قومية واستراتيجية بحتة، بعيدًا عن أي توجه إمبراطوري حقيقي.
اضف تعليقا