مفهوم الضلال  والنسيان في النص القرآني

    الضلال في النصوص القرآنية ليس مفهوماً بسيطاً يمكن اختزاله في الكفر أو المعصية، بل هو حالة شعورية أوسلوكية ترتبط بتصور الإنسان عن الواقع وسلوكه بناءً على هذا التصور. لفهم دلالة الضلال بعمق، يجب أن ننطلق من تحليل قرآني ولساني متكامل يراعي السياق النصي والدلالي للألفاظ.

الفرق بين الضلال والنسيان

لفظا “ضل” و”نسي” وردا في القرآن للدلالة على حالتين مختلفتين تماماً. في قوله تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (طه: 52)، يوضح النص أن النسيان يعني انتفاء استحضار المعلومة عند لزومها أو تغييبها تماما رغم استحضارها، وهو حالة مؤقتة لا ترتبط بسلوك واعٍ أو معتقد خاطئ. بالمقابل، الضلال يدل على تصور أو اعتقاد غير مطابق للواقع، يؤدي إلى ضياع واضطراب.

فالنسيان يُعذر عليه الإنسان لأنه لا ينتج عن قصد أو وعي. أما الضلال، فهو فعل نابع من اعتقاد أو تصوّر يفتقر إلى البرهان أو التحقق ، أو ضياع المعلومة عنده واضطرابه معلوماتياً. ولهذا فإن الضال يُحاسب على سلوكه لأنه ناتج عن قناعة  أو حكم غير مستند إلى الحقائق.

الضلال في سياق الشعور والوجدان

في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (الضحى: 7)، يظهر الضلال كحالة شعورية ووجدانية. النبي ، في هذا السياق، لم يكن ضالاً بمعنى الكفر أو المعصية، بل كان في حالة بحث عن الحقيقة، غير مستند إلى وحي أو هدى واضح. الضلال هنا يعكس شعوراً بعدم اليقين الذي ينتهي بالهداية من الله.

هذا الفهم للضلال يبين أنه ليس بالضرورة حالة سلبية، بل قد يكون مرحلة انتقالية يمر بها الإنسان قبل الوصول إلى الحق. وهنا يختلف الضلال كحالة شعورية عن الضلال كسلوك عملي. فالشعور بالضلال حالة من الحيرة والبحث، أما السلوك الناتج عن اعتقاد خاطئ فهو ما قد يترتب عليه مسؤولية أو محاسبة.

الضلال في سياق شهادة النساء

في قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} (البقرة: 282)، استخدم فعل “تضل” للإشارة إلى تصور مخالف للواقع أثناء الشهادة. الضلال هنا ليس نقصاً في العقل أو الدين كما فهمه بعض المفسرين التقليديين، بل هو تعبير عن احتمال خطأ في التصور نتيجة نقص في الخبرة أو عدم وضوح المعلومات. وتضاربها.

هذا التفسير ينسجم مع واقع الشهادة كمسؤولية تعتمد على الوعي والإدراك. المرأة التي تنشأ في بيئة تُعزز من وعيها وتعليمها تكون شهادتها مكافئة لشهادة الرجل. وبالتالي، النص لا يُقيّد المرأة أو يقلل من قيمتها، بل يضع إطاراً لحماية الحقوق من خلال توثيق أكثر دقة.

الضلال بين الفرد والمجتمع

الضلال في النص القرآني يتأثر بالسياق الاجتماعي والثقافي. كما أن النصوص التي تتحدث عن الضلال الفردي تشير إلى علاقة الشخص بالواقع المحيط ومدى انسجام تصوراته مع الحقيقة. أما الضلال الجماعي، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153)، فيشير إلى انحراف الجماعة عن الطريق المستقيم نتيجة اتباع تصورات أو معتقدات غير قائمة على البرهان.

الخلاصة

الضلال في اللسان القرآني هو حالة تتراوح بين الشعور بعدم اليقين والسلوك الناتج عن تصور خاطئ. وهو يختلف عن النسيان، الذي لا يستند إلى وعي أو إدراك. كما أن الضلال ليس مرادفاً للكفر أو المعصية بالضرورة، بل قد يكون مرحلة انتقالية في رحلة الإنسان نحو الهداية. الفهم السليم لهذا المفهوم يُمكّننا من التعامل مع النص القرآني بوعي يعكس عمقه وشموليته، بعيداً عن التفسيرات السطحية التي لا تراعي دقة المباني والمعاني في اللسان العربي.