ولادة المسيح ونبوته وحريته

      المسيح عليه السلام حالة استثنائية بين الأنبياء، حيث وُلِد نبيًا بحسب النصوص القرآنية، مما يميزه عن بقية البشر والأنبياء الذين يمرون بمراحل من الاختبار لاكتساب الإيمان والطاعة. هذا الوضع الفريد يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة التزامه بالطاعة، وحريته في الاختيار، ومفهوم “الفضل” في سياق حالته. في هذا المقال، سنناقش هذه الإشكاليات بالاعتماد على التحليل القرآني والعقلي.

  1. التزام المسيح بالطاعة: حالة نبوية استثنائية

وُلِد المسيح عليه السلام نبيًا مزودًا بعلم ويقين إلهي غُرس فيه مباشرة منذ ولادته. يظهر ذلك بوضوح في قوله تعالى على لسان المسيح في المهد:

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (مريم: 30).

هذا النص يوضح أن الطاعة والإيمان كانا حالته الفطرية والطبيعية، نتيجة لمنزلته النبوية الممنوحة له منذ البداية. ومع ذلك، يظل السؤال: هل كانت هذه الطاعة مجرد نتيجة تلقائية لحالته، أم أنها تعبير عن إرادة حرة؟

  1. حرية الإرادة في طاعة المسيح

على الرغم من أن المسيح عليه السلام وُلِد نبيًا، إلا أن حرية الإرادة لم تُلغَ في حالته. علمه الفطري ويقينه بالله جعلاه يميل للطاعة بشكل طبيعي. هذا لا يعني أنه كان مجبرًا، بل أن الطاعة كانت الخيار الأكثر انسجامًا مع معرفته ويقينه.

تشبيه:

كما أن الشخص الذي يعلم يقينًا أن النار تحرق لا يختار لمسها، كان المسيح يدرك يقينًا الحقائق الإلهية، مما جعله يختار الطاعة بشكل واعٍ ومنطقي.

القرآن الكريم يشير إلى هذا النوع من الطاعة التي تأتي من علم راسخ، حيث يقول:

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: 28).

  1. خصوصية المسيح عليه السلام

ولادة المسيح نبيًا لم تكن حالة عادية، بل كانت آية لقومه. ولادته بلا والد وإعلانه النبوة في المهد يمثلان دليلًا على قدرته تعالى، كما قال سبحانه:

وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةً (المؤمنون: 50).

هذه الخصوصية لا تقلل من فضل المسيح، بل تؤكد مكانته المميزة ودوره في إظهار قدرة الله وحكمته.

  1. مفهوم الفضل في حالة المسيح

الفضل عند الله لا يُقاس فقط باجتياز الاختبارات كبقية البشر، بل بالأداء الكامل للمهمة الموكلة. المسيح عليه السلام، رغم حالته النبوية الفطرية، أظهر طاعة مطلقة وإرادة حرة متناغمة مع وظيفته النبوية.
حتى مع غرس العلم والإيمان فيه، كان لديه نظريًا خيار العصيان، لكنه لم يفعل، مما يعكس إرادته الحرة في تحقيق الطاعة الكاملة.

  1. لماذا لم يُغرس الإيمان والطاعة في الجميع؟

هذا السؤال يقودنا إلى فهم الحكمة الإلهية في الابتلاء. الله سبحانه خلق البشر ليُختبروا في إيمانهم وطاعتهم، كما قال:

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (الملك: 2).

لو غُرس الإيمان والطاعة في جميع البشر كما غُرسا في المسيح، لفقدت الحياة غايتها كدار اختبار. أما المسيح، فكان حالة استثنائية تخدم غرضًا خاصًا: كونه آية لقومه، مما استلزم غرس الإيمان والطاعة فيه منذ البداية.

  1. الخلاصة

التزام المسيح بالطاعة والإيمان كان نتيجة كونه نبيًا منذ ولادته، وهو ما يميزه كحالة فريدة في تاريخ الأنبياء. إرادته الحرة لم تُلغَ، لكنها كانت منسجمة تمامًا مع حالته النبوية. فضل المسيح عليه السلام يكمن في طاعته المطلقة وقيامه بدوره كآية. أما البشر الآخرون، فقد خُلقوا ليُختبروا في إيمانهم وطاعتهم، وهو ما يبرز الحكمة الإلهية في تنوع الحالات البشرية والنبوية.

هذا الفهم يسلط الضوء على التوازن بين الإرادة الحرة والاصطفاء الإلهي، ويؤكد على مكانة المسيح المميزة كجزء من الحكمة الإلهية في خلق الأنبياء.