المجتمع والقيادة

جدلية المسؤولية والتغيير

      لطالما كان النقاش محتدمًا حول العلاقة بين المجتمع والقيادة، وبين الحقوق والواجبات. هل المسؤولية في الإصلاح تقع على عاتق الحكومات أم أن المجتمعات هي التي تُنتج قياداتها وتعكس ثقافتها؟ في عالم يزداد تعقيدًا، يصير من الضروري إعادة النظر في هذه العلاقة لفهم كيف يمكن بناء مجتمعات أكثر عدالة وقدرة على تحقيق التغيير الحقيقي.

الواجبات قبل الحقوق: قاعدة أساسية في البناء المجتمعي

في كثير من المجتمعات، يكثر الحديث عن الحقوق، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بينما يتم التغاضي عن الواجبات. هذه الجدلية تعكس خللًا في مفهوم المواطنة، حيث إن الحقوق والواجبات وجهان لعملة واحدة. فمن دون الالتزام بالمسؤوليات الفردية والجماعية، لا يمكن ضمان توزيع عادل ومستدام للحقوق.

النظر إلى التاريخ يعطينا نموذجًا واضحًا في قصة بني إسرائيل كما وردت في القرآن. كان بنو إسرائيل نموذجًا لمجتمع يطالب بالحقوق دون الالتزام بالواجبات، إذ كانوا يسألون عن كل شيء ويماطلون في تنفيذ الأوامر، حتى عندما طُلب منهم دخول الأرض المقدسة، قالوا: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (المائدة: 24). هذه العقلية تعكس ذهنية تتهرب من المسؤولية وتحمل الآخرين تبعات التغيير، وهي عقلية لا تزال موجودة في مجتمعات كثيرة اليوم، حيث يُلقى اللوم على الحكومات والأنظمة دون أن يتم النظر إلى دور المجتمع في إنتاج هذا الواقع.

هل الفساد يبدأ من القمة أم من القاعدة؟

من الشائع استخدام مقولة “الفساد يبدأ من رأس السمكة قبل ذيلها”، في إشارة إلى أن فساد القيادة ينعكس على المجتمع بأسره. هذه الفكرة تدعمها نظرية أن القوانين والسياسات العامة تؤثر بشكل مباشر على سلوك الأفراد، وأن الأنظمة الفاسدة تفرض ثقافة تبرر الفساد بل وتشجعه.

لكن في المقابل، يوجد مجتمعات تتسامح مع الفساد وتعيد إنتاجه حتى في أبسط التعاملات اليومية. فعندما يصير التحايل على القوانين جزءًا من الثقافة، وحين يكون الالتزام بالقواعد استثناءً لا قاعدة، فإن المجتمع نفسه يصير بيئة حاضنة للفساد، بصرف النظر عن نزاهة القادة. في هذه الحالة، يصير التغيير مستحيلًا ما لم يكن يوجد وعي مجتمعي بضرورة إصلاح الثقافة الاجتماعية  قبل إصلاح الآخرين.

الناس على دين ملوكهم” أم أن الملوك انعكاس لشعوبهم؟

يوجد اعتقاد بأن الشعوب تتبع قياداتها في كل شيء، مستندًا إلى مقولة “الناس على دين ملوكهم”، أي أن الحاكم هو الذي يحدد القيم والسلوكيات السائدة. لكن هذا التفسير يبقى ناقصًا إذا لم يؤخذ بعين الاعتبار أن القادة لا يظهرون من فراغ، بل هم نتاج مجتمعاتهم.

فلو كانت هذه المقولة مطلقة الصحة، لكان كل مجتمع يعكس تمامًا أخلاق قياداته، لكن التاريخ يُظهر أن هناك شعوبًا قاومت الفساد والاستبداد، وأخرى عززته وصنعته. إذن، العلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست باتجاه واحد، بل هي علاقة جدلية تفاعلية مستمرة يتأثر فيه كل طرف بالآخر.

التغيير: من القمة أم من القاعدة؟

يرى البعض أن التغيير الحقيقي يبدأ من رأس الهرم، مستندين إلى مقولة “شطف الدرج يبدأ من الأعلى إلى الأسفل”، حيث إن القيادة تمتلك الأدوات اللازمة لإحداث إصلاحات واسعة. في المقابل، يوجد من يرى أن التغيير لا يمكن فرضه من الأعلى إذا لم يكن المجتمع مستعدًا له. إن أعظم القوانين لا قيمة لها إذا لم يكن يوجد وعي مجتمعي يدعمها، كما أن الإصلاحات السياسية قد تفشل إذا لم يكن الأفراد أنفسهم مقتنعين بضرورتها.

هذا التفاعل يظهر في مقولة: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، حيث يُشار إلى أن القوة والقانون قد يكونان أكثر فاعلية في ضبط السلوك الاجتماعي من الوعظ والنصح فقط. لكن في النهاية، يبقى السؤال: هل القانون وحده يكفي إذا كان الأفراد لا يرون فيه ضرورة؟

المسؤولية مشتركة: القيادة انعكاس للمجتمع والمجتمع يُنتج قيادته

لا يمكن إلقاء اللوم كله على الحكومات، كما لا يمكن تبرئة المجتمعات من مسؤوليتها في إنتاج أنظمة سياسية تعكس قيمها. في النهاية، كل فرد مسؤول عن دوره في بناء أو هدم مجتمعه، سواء كان قائدًا أو مواطنًا عاديًا.

إن الحديث عن الحقوق دون أداء الواجبات ليس سوى هروب من المسؤولية، والقادة ليسوا كائنات هبطت من السماء، بل هم أبناء هذه المجتمعات. لذا، إذا أردنا قادة صالحين، فعلينا أن نكون مجتمعًا مسؤولًا، يلتزم بالقانون والأخلاق قبل أن يطالب بالتغيير. وكما قيل: كما تكونون يولى عليكم، فإن بناء مجتمع واعٍ هو السبيل الوحيد لضمان قيادة واعية.

إذن، السؤال الأهم ليس فقط :  متى ستتغير الحكومة؟ بل :  متى سيتغير المجتمع؟

الحكومة لاتصنع أمة بينما الأمة تصنع حكومة، وإنسان الحقوق فقط لايكون مواطنا صالحا إن لم ينطلق من واجباته ابتداء ومن ثم يطالب بحقوقه

فنحن بحاجة لأمة راشدة  واعية تصنع حكومات راشدة،  فالأزمة الرئيسة هي غياب الوعي الثقافي المجتمعي عند الشعب، وغياب مفهوم إنسان الواجبات وظهور محله إنسان الحقوق الاستهلاكي ذو النظرة الأنانية