هل الشيطان يتبع الإنسان

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}

     تُعدّ النصوص القرآنية منظومة متكاملة تعكس قواعد منطقية مترابطة في بيان الظواهر النفسية والاجتماعية والكونية. ومن بين هذه النصوص، تبرز الآية 175 من سورة الأعراف بوصفها نموذجًا دقيقًا يوضح العلاقة الجدلية بين الإنسان، والهداية، والانحراف، والتأثيرات الخارجية التي تُغيّر مساره. يهدف هذا المقال إلى تقديم تدبر لهذا النص، من خلال تفكيك مكوناته الدلالية واللسانية، وربطها بالسياق القرآني العام.

أولًا: التحليل اللساني والدلالي للنص

  1. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا

يتضمن هذا المقطع أمرًا إلهيًا للنبي بتلاوة قصة معينة ذات دلالة عظيمة.

  • نَبَأَ: يدل في القرآن على الخبر العظيم الذي يحمل عبرة، وليس مجرد معلومة عادية (كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} النبأ: 1-2).
  • آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا: يُشير إلى أن الشخص المذكور لم يكن جاهلًا، بل امتلك الآيات كوسيلة للهداية. هذا يعكس أن الانحراف لم يكن نتيجة نقص في المعرفة، بل كان قرارًا واعيًا.
  1. فَانسَلَخَ مِنْهَا
  • انسَلَخَ: الفعل مستمد من “سلخ”، وهو إزالة شيء كان متصلًا بشيء آخر، كما في سلخ الجلد عن اللحم.
  • هذا التصوير يشير إلى أن الآيات كانت جزءًا من تكوين هذا الشخص، لكنه تخلى عنها تمامًا، وكأنه انتزع نفسه منها.
  1. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
  • الفعل أَتْبَعَ يدل على أن الشيطان هو الذي صار يتبع هذا الشخص، وليس العكس.
  • هذا يختلف عن السياق التقليدي الذي يُصوَّر فيه الإنسان على أنه هو الذي يتبع الشيطان طوعًا، مما يشير إلى نقطة تحوّل يصير فيها الشخص هدفًا للشيطان بعد أن يترك الهداية.، وهذا من باب الطيور على أشكالها تقع فهذا الشخص صار جاذباً لأمثاله ومحط اتباع لكل الشياطين مثله.
  1. فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
  • الْغَاوِينَ مشتقة من “غوى”، والتي تدل على الانحراف عن المسار الصحيح دون وجود هداية، مما يعني أن هذا الشخص لم يعد فقط في مرحلة الخطأ، بل دخل في دائرة التيه التام.

ثانيًا: البعد النفسي والسلوكي للآية
يمكننا تحليل سلوك هذا الشخص وفق المراحل التالية:

  1. مرحلة الامتلاك المعرفي: حيث كان على علم بالآيات.
  2. مرحلة الانسلاخ التدريجي: حيث بدأ في التخلي عن المبادئ التي كانت تشكّل هويته.
  3. مرحلة تسلّط الشيطان: بعد أن تخلّى عن الآيات، صار مستهدفًا من قِبل الشيطان، الذي بدأ يوجهه ويدعمه
  4. مرحلة الغواية المطلقة: صار من الغاوين، أي خرج من دائرة الحق بالكامل.

ثالثًا: مقارنة النص بآيات أخرى
يتقاطع هذا النص مع آيات أخرى توضح مراحل مشابهة للانحراف:

  • (الزخرف: 36): {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُۥ شَيْطَـٰنًۭا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٌۭ}، حيث يصير الإنسان مقرونًا بالشيطان بمجرد إعراضه عن الحق.
  • (مريم: 83): {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَـٰطِينَ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}، حيث تكون الشياطين هي المتحكمة بالكافرين، لا العكس.

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ }{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }الشعراء221،222

الخاتمة
تعكس هذه الآية نموذجًا معقدًا للانحراف البشري، حيث لا يقتصر الضلال على اختيار شخصي في البداية، بل يتطور إلى حالة من الاستعباد للشيطان بمجرد التخلي عن الهداية. إن هذه الديناميكية تؤكد أن الانحراف لا يحدث فجأة، بل يمر بمراحل تدريجية يصير الإنسان فيها أكثر ضعفًا أمام القوى التي كانت في البداية مجرّد وساوس، لكنها تتحوّل لاحقًا إلى قوًى مسيطرة.