هل نزل القرءان مشفراً وصار بلسان عربي مبين

هذه الفكرة قائمة على ثلاث فرضيات:

  1. أن القرآن كان موجودًا بصيغة معلوماتية مشفرة قبل أن ينزل بلسان عربي مبين {اللوح المحفظ}.
  2. أن النبي هو الذي فك الشيفرة المعلوماتية و قام بصياغة الخطاب القرءاني بلسان عربي مبين بناءً على فهمه وقدراته العلمية لما نُقل إليه.
  3. ان القرءان نزل على قلب النبي بصورة أحرف مقطعة وبالوقت ذاته قام جبريل بتعليم النبي كيف يركب هذه الأحرف في كلام وجمل حسب المطلوب فظهر النص القرءاني بلسان عربي مبين.

تحليل الفرضيات بمنهج تحليلي

  1. مفهوم “إنا جعلناه قرآنًا عربيًا”

كلمة “جعل” تدل على التحول في الصيرورة أو التغيير في الهيئة أو الوظيفة. كما في قوله تعالى:

“إني جاعلك للناس إمامًا” (البقرة 124)

إبراهيم عليه السلام كان موجودًا كإنسان، لكن التحول هنا كان في الوظيفة، حيث صار إمامًا للناس بعد مروره بتجارب فكرية وعلمية ونضوج معرفي.

{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30

الماء موجود ولكن تم الجعل منه كل شيء حي بصور كثيرة ومختلفة لا تحمل صورة الماء

وبناءً على ذلك، يمكن فهم “إنا جعلناه قرآنًا عربيًا”  وينبغي ملاحظة عدم ذكر كلمة اللسان في النص مما يعني أن الكلام ليس على اللسان وإنما على مضمون القرءان كمفاهيم وأحكام وأخبار مثل نص {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ }الرعد37
فصفة الجعل للقرءان وصفة الحكم  كلاهما العربية وكلاهما يتعلقان بخطاب نزل بلسان عربي مبين ، والجعل هو إظهار  القرءان من وجود موضوعي إلى وجود لساني يحتوي هذه المعلومات بصورة متوافقة ومنسجمة مع الأصل، فخلق الكون وما فيه من مجرات ونجوم وكواكب سابق في الوجود عن جعل القرءان بلسان عربي مبين.

لم يكن القرءان معلوماتيا موجود بصورة مشفرة وبعد ذلك جعل عربيا، بل إن جوهره ومضمونه يتناسب مع الفطرة والسنن الكونية. فالعربية هنا ليست اللسان، وإنما تعني أن القرآن جاء متسقًا مع النظام الطبيعي والسنة الإلهية في الكون.

  1. ما معنى أن القرآن “عربي”؟

الجذر “عرب” في اللسان العربي يدل على الأصالة والطهارة والصفاء، وقيام الشيء على ما هو عليه خلقًا دون تدخل الإنسان بصنعته أو تغييره.

وبذلك، فإن “جعلناه قرآنًا عربيًا” وحكمًا عربياً، لا يعني أنه بلسان عربي مبين، فهذه الصفة الأخيرة أتت في نص خاص بها  نزل بلسان عربي مبين يحمل الجعل والحكم العربي ضرورة بمعنى:

  • موافق للفطرة النقية.
  • موافق للإنسان بصفته كائن اجتماعي
  • متوافق مع العقل المنطقي
  • متناسق مع السنن الكونية.
  • قائم على الحقيقة المطلقة التي لم تُشوَّه بتدخل بشري.
  • صالح لكل زمان ومكان
  1. هل النبي هو الذي صاغ الخطاب بلسان عربي؟

من الشبهات التي تُطرح أن النبي كان يتلقى الوحي كأفكار مجردة، ثم يصوغها بأسلوبه الخاص بلسان عربي مبين. ولكن النص القرآني ينفي ذلك بوضوح في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }{عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ } {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }الشعراء192،195

ونص {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }البقرة97

ونص {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى }{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }النجم3،4

ونص {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ }{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ }المدثر25،26

وهذا الافتراض يجعل النص القرءاني صياغة بشرية وينتفي عنه الصفة العلمية والعربية، ويصير مثل كلام البشر فيه مجاز وعبث واعتباط…الخ، ويفقد صفة الديمومة والصلاحية المستمرة، غير أن النبي بصفته البشرية لا يقدر أن يصيغ نصًا عربيًا مبيناً ، ويصير نصا تاريخيًا قوميا مرتهن بثقافة قومه وزمانه.

 

“أما نص )لا تحرك به لسانك لتعجل به” (القيامة 16

لا يعني أن النبي كان يحاول تكرار الوحي بسرعة لحفظه، لأن الوحي لم يكن يُنقل إليه كنصوص تُتلى مباشرة، بل كان يُنزَّل على قلبه كملف صوتي. وإنما النهي عن تحريك اللسان والعجلة بالوحي تتعلق بطلب النبي نزول نصوص تتعلق بأحداث أو أحكام لم تنزل بعد، فتم الطب منه أن لا يستعجل بذلك وكل نص سوف ينزل بمكانه المناسب له حسب الظروف .

  1. كيف كان النبي يتلقى الوحي؟

لم يكن النبي يتلقى “أفكارًا مجردة دون نص لساني يحملها” ثم يصوغها بلسانه.

 فكيف كان يتلقى الوحي؟

  • هل كان يستقبل المعلومات الدينية والعلمية والتاريخية كرموز مجردة (كودات برمجية) ثم يقوم بتحليلها وترجمتها إلى لسان عربي؟
  • إذا كان الأمر كذلك، فهل كان عقل النبي مختلفًا عن عقول البشر بحيث يستطيع التعامل مع هذه “الشيفرات” بطريقة لا يستطيعها غيره؟

النصوص القرآنية تشير إلى أن الوحي كان يُنقل إلى النبي بصياغته النصية مباشرة وليس أحرفًا أو رموزاً مجردة تحتاج إلى تأليف بشري. كما في قوله تعالى:

“نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين” (الشعراء 193-195)

نزول القرآن كنص متكامل بلسان عربي مبين

  1. تنزيل القرآن كمفهوم متكامل:
    تشير عبارة “وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ” إلى أن القرآن جاء من عند الله تعالى كنص ، وهذا دلالة ضمير الهاء، أي أنه لم يُرسَل على هيئة رموز أو أحرف مقطعة تنتظر عملية فك لاحقة. التنزيل هنا يعني إيصال الوحي بكل صفاته اللسانية في وحدة صوتية متماسكة ونزل مفرقا حسب الظروف.
  2. دور الروح الأمين في النقل:
    في قوله “نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ” يُبيّن أن جبريل عليه السلام هو الذي حمل المادة النصية للوحي إلى النبي. دوره كان نقل النص كما هو دون أن يتضمن نقلًا للمعاني أو تفسيرًا مسبقًا؛ فالمعاني تظهر فيما بعد نتيجة تفاعل النبي ووعيه للنص.
  3. فصل الجملة الختامية:
    تأتي جملة “بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ” كختام منفصل يُظهر بوضوح أن نص الوحي قد نزل بلسان عربي مبين منذ لحظته الأولى. الفصل اللساني هنا دلالة على وحدة العملية؛ ولا يقتضي انتقال النص من حالة مشفرة إلى حالة مفهومة لاحقًا.

ثانيًا: آلية استقبال الوحي في جهاز الإدراك

  1. تكوين الملف الصوتي في مركز الإدراك:
    عندما يتكلم الله مع أحد من خلقه، لا يتم ذلك من خلال الحواس العضوية الأذن والعين ؛ بل يتجاوز ذلك مباشرة إلى مركز الوعي لدى الإنسان. يمكن تشبيه هذه العملية بخلق “ملف صوتي” داخل جهاز الإدراك، يحمل المادة النصية والوحي بلسان محدد.
  2. وظيفة الحواس في عملية النقل:
    تُستخدم الحواس مثل الأذن والعين كوسائل لنقل الإشارات إلى مركز الإدراك، حيث تُستقبل المادة الوحيّية. لكن هذه الحواس ليست مكان تكوّن المعاني أو تفسيرها؛ فهي مجرد قنوات تنقل الملف الصوتي الذي يحتوي على المادة. بالتالي، لا يتم اللجوء إلى الفهم أو التفسير أثناء نزول الوحي نفسه، بل يأتي ذلك لاحقًا نتيجة تفاعل المتلقي مع النص.

ثالثًا: الفصل بين لسان الوحي وكلام الله

  1. نزول القرآن بلسان عربي مبين:
    يظهر أن القرآن نزل بلسان عربي مبين على قلب النبي، و حفظ النص فيه، وقام بتلاوته صوتياً على الناس وسمعوه وحفظوه وتفاعلوا معه.
  2. عدم مساواة لسان الوحي بكلام الله:
    إن نزول القرآن بلسان عربي مبين لا يعني أن الله تعالى يتكلم بلسان عربي؛ فالله سبحانه وتعالى متعالي على محدودية اللسان البشري. عند مخاطبة الله لعباده، تتجاوز العملية الحسية الحقيقية الوسائل العضوية التقليدية لتُخلق في مركز الوعي “ملفات صوتية” تحمل المادة الوحيّية. وهذه العملية تُمكن المتلقي من تلاوة النص ودراسته، دون أن يكون هناك تداخل بين لسان الوحي وكلام الله ذاته.

   الخاتمة

    من خلال التحليل اللساني والمنطقي والقرآني يتبين أن القرآن نزل بلسان عربي مبين مباشرةً على قلب النبي كخطاب لساني ، وليس كنص مشفر أو عبارة عن أحرف مقطعة تحتاج إلى فك لاحق. عملية التنزيل تتضمن خلق “ملف صوتي” في جهاز الإدراك لدى الإنسان، يتخطى الحواس العضوية التي تعمل كوسائل نقل للمعلومات. كما أن نزول القرآن بلسان عربي مبين يهدف إلى كماله وتيسر دراسته من خلال عربيته المنسجمة مع الواقع، ولا يستلزم استنتاج أن الله يتحدث بلسان عربي؛ فلسان الوحي هو وسيلة لنقل الرسالة الإلهية إلى قلوب العباد بما يتناسب مع قدراتهم الإدراكية والثقافية.

 

  1. النتيجة
  • القرآن جُعل عربيًا وحكمه عربيًا ونزل بلسان عربي مبين.
  • النبي لم يكن يعيد صياغة الخطاب، بل كان يتلقاه نصًا محفوظًا كما هو.
  • الوحي لم يكن مجرد “أفكار مجردة” يتولى النبي تحويلها إلى كلام، بل كان ينزل جاهزًا بلسان عربي مبين.
  • العلاقة بين النبي والوحي لم تكن علاقة “فك تشفير” أو ترجمة رمزية، بل علاقة تلقٍّ مباشر لنص جاهز.
  • النهي عن تحريك اللسان بالعجلة لم يكن متعلّقًا بحفظ الوحي، بل بطلب النبي نزول أخبار أو أحكام لم تأتِ بعد، مما يدل على أن القرآن لم يكن فكرة مجرّدة بل نصًّا متكاملاً ينزل في وقته المقدر.
  • الإنسان لا يستطيع أن يتلقى معلومات أو يرسل معلومات دون نص لساني يحملها.
  • الإنسان لا يستطيع أن يفكر إلا بلسان يكون حاملًا لعملية التفكير والتقليم.
  • الأنبياء كلهم من البشر ولا يتصفون بأي صفة تختلف عن البشر لا بيولوجيا ولا نفسيا ولا عقلياً.
  • الأنبياء كونهم من البشر فهم لايستطيعون أن يصيغوا نصا بلسان عربي مبين يحتوي مادة الوحي.

وبذلك تسقط الفرضية القائلة بأن النبي هو الذي أضفى على القرآن صبغته العربية، أو نزل رموزًا وشيفرة معها طريقة التعامل والفك لها للنبي ، ويثبت أن القرآن في بنيته الصوتية نزل بلسان عربي مبين أصيلًا منذ البداية.

{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ }آل عمران58

{وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }الحجر6

{أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ }ص8

{وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ }القلم51

نزل الذكر وهو الحالة الصوتية القابلة للتلاوة والسمع