قال له كن فيكون لماذا لم تأت فكان

تُعد عبارة “كُنْ فَيَكُونُ” من العبارات المفتاحية في النص القرآني، حيث تتكرر في سياقات متعددة تتعلق بالإرادة الإلهية والخلق. أحد أبرز هذه السياقات هو خلق المسيح عيسى بن مريم، كما جاء في قوله تعالى:

﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59).

يثير هذا النص مسألة لسانية ومنطقية مهمة تتعلق باستخدام “فيكون” بصيغة المضارع، رغم أن خلق عيسى قد تحقق وانتهى زمنياً قبل نزول القرآن. فلماذا لم تُستخدم صيغة الماضي “فكان” بدلاً من “فيكون”؟ وما هو المفهوم الحقيقي لعبارة “كن فيكون” في هذا السياق؟

أولًا: الإشكالية اللسانية في استخدام المضارع “فيكون” بدلاً من الماضي “فكان”

عند تحليل الآية ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾، يبرز تساؤل مهم:

  • إذا كان خلق عيسى قد حدث في الماضي، فلماذا جاء الفعل في صيغة المضارع “فيكون” بدلًا من “فكان”؟
  • هل المضارع هنا يشير إلى استمرار الحدث أم إلى شيء آخر؟

للإجابة على هذا السؤال، لا بد من فهم دلالة الزمن في القرآن وموقع هذا الفعل في سياق النص.

ثانيًا: تحليل دلالة “كُنْ فَيَكُونُ” في السياق القرآني

1- “كن فيكون” تعني الحتمية وليس الفورية

الفهم السطحي لعبارة “كن فيكون” قد يوحي بأن تنفيذ الأمر الإلهي يتم لحظيًا، لكن التدقيق يظهر أن الأمر أكثر تعقيدًا. فالقرآن نفسه يوضح أن بعض الأوامر الإلهية تتحقق عبر مراحل زمنية طبيعية، كما هو الحال في خلق الإنسان والحياة عمومًا.

في حالة خلق عيسى، لم يكن الأمر لحظيًا، بل تطلب مراحل طبيعية:

  • حمل مريم بعيسى.
  • مدة الحمل الطبيعية.
  • الولادة.

وبالتالي، “فيكون” لا تعني الفورية الزمنية، بل تعني أن الأمر صار حتميًا وبدأت آلياته في التنفيذ وفق النظام الكوني الموضوع له.

2- المضارع “فيكون” يشير إلى الامتداد الزمني للحدث

استخدام “فيكون” بدلًا من “فكان” يعكس فكرة أن تنفيذ الأمر الإلهي يأخذ مجراه المرحلي عبر الزمن. هذا النمط يتكرر في القرآن في سياقات مشابهة:

  • ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82).
  • ﴿إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 47).

لو قيل “كن فكان” لكان الفهم الحتمي هو الفورية بالحصول مع إسقاط عامل المرحلة والزمن، لكن “فيكون” تعني أن الحدث يتحقق في الزمن وفق القوانين التي وضعها الله.

3- علاقة “كن فيكون” بالسُنن الكونية

الخلق في القرآن مرتبط بمنظومة قوانين وسنن إلهية. في حالة عيسى، لم يخرق الأمر هذه السنن، بل تحقق الخلق ضمنها:

  • الحمل حدث في رحم مريم بشكل طبيعي.
  • الولادة جرت وفق سنن الحمل والإنجاب.

وهذا يؤكد أن “فيكون” تعني الدخول في مرحلة التحقيق، وليس مجرد التحقق اللحظي.

ثالثًا: مقارنة مع آيات أخرى توضح هذا النمط

يمكن فهم ظاهرة المضارع في “فيكون” من خلال مقارنتها بآيات أخرى تظهر فيها صيغة المضارع رغم أن الفعل ماضٍ أو مستمر:

 ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ (يونس: 25).

    • الدعوة والهداية ليست لحظية، بل مستمرة ومتجددة.

من هنا، “كن فيكون” في خلق عيسى لا تعني أن الخلق تم فورًا، بل أنه صار واقعًا لا رجعة فيه، وبدأ يأخذ مجراه الطبيعي ضمن الزمن.

النتيجة النهائية

  1. “كن فيكون” لا تعني الفورية الحسية ، بل تعني أن الأمر صار حتميًا كأمر صدر، لكنه يتحقق ضمن الزمن الطبيعي وفق السنن الكونية.
  2. المضارع “فيكون” يشير إلى الامتداد الزمني والتنفيذ التدريجي، وليس إلى مجرد لحظية الحدث.
  3. خلق عيسى تمّ وفق السنن الطبيعية رغم كونه حدثًا استثنائيًا من حيث كونه بلا والد.
  4. استخدام القرآن للمضارع في مواضع أخرى يؤكد أن الفعل قد يكون قد بدأ في الماضي لكنه مستمر ضمن الزمن.

  خاتمة

    يوضح هذا التحليل أن القرآن دقيق جدًا في اختيار أزمنة الأفعال، وأن “كن فيكون” لا تعني الخلق الفوري، بل تعني التحقق الحتمي الذي يأخذ مجراه عبر الزمن. في حالة عيسى، بدأ الخلق عند الأمر “كن”، لكنه خضع لمراحل طبيعية مثل الحمل والولادة، مما ينسجم مع سنن الله في الكون.

بهذا، يصير النص القرآني أكثر وضوحًا، حيث أن استخدام المضارع “فيكون” هو تعبير عن الامتداد الزمني والتنفيذ التدريجي، وليس مجرد إشارة إلى لحظية الخلق.