هل كذب النبي إبراهيم بقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ

       تُعد قصة النبي إبراهيم وتحطيمه للأصنام من أكثر المواضيع إثارة للنقاش والتأمل في القرآن الكريم. وقد استدل بعض المفسرين على أنه قام بتكسير الأصنام بنفسه، بينما يشير النص القرآني إلى استخدامه أسلوبًا بلاغيًا في الحوار مع قومه، مما يفتح الباب أمام تدبر أعمق للآيات.

تحليل النصوص القرآنية

تبدأ القصة في سورة الأنبياء عندما قرر إبراهيم عليه السلام إحداث صدمة فكرية لقومه بشأن عبادتهم للأصنام. ويأتي في الآيات:

{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ }الأنبياء57

{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ }الأنبياء58

{قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ }الأنبياء59

{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }الأنبياء60

{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ }الأنبياء61

{قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ }الأنبياء62

  1. {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} (الأنبياء: 63)
    • هذه الآية توحي بأن إبراهيم قد نسب الفعل إلى “كبير الأصنام”، لكن النص يظهر أن هذا القول كان جزءًا من حوار سابق وهذا استمرار له وهو جواب استنكاري ، وليس تصريحًا بحقيقة وقوع الفعل على هذا النحو.
    • استخدام “بل” هنا يدل على الانتقال إلى طرح فكرة معاكسة لما قد يظنه القوم، حيث لم يقل إبراهيم مباشرة “أنا فعلت”، بل دفعهم إلى التفكير بطريقة منطقية حول استحالة نطق الأصنام وإمكانية قيامها بالفعل.
  2. {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} (الأنبياء: 64)
    • هنا يظهر تأثير حجة إبراهيم، حيث جعلهم يعيدون التفكير في ممارساتهم. يدل التعبير “رجعوا إلى أنفسهم” على أنهم أدركوا خلل عقيدتهم وبدأوا بالاعتراف بظلمهم لأنفسهم من خلال عبادة أصنام لا تملك قدرة على الفعل.
  3. {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} (الأنبياء: 65)
    • بعد لحظة الإدراك، عادوا إلى إنكارهم واحتجوا بأن إبراهيم يعلم أن الأصنام لا تنطق، مما يكشف عن عجزهم عن الدفاع عن عبادتهم لها.
    • عبارة “نُكِسُوا على رؤوسهم” تدل على التراجع الفكري والنكوص بعد لحظة الوعي التي مروا بها.

هل كذب إبراهيم؟

من منظور قرآني، لا يمكن نسبة الكذب إلى نبي مرسل، لأن الأنبياء معصومون عن الكذب في تبليغ الرسالة. لكن النص يشير بوضوح إلى أن إبراهيم لم يكن يقصد حقيقة الفعل ولم ينف الاتهام، وإنما استخدم أسلوب التورية والتنبيه  {التعريض أو الاستدراج الجدلي} لإثارة التفكير المنطقي لدى قومه. وهذا الأسلوب ليس كذبًا بل هو جزء من منهج الحجاج العقلي.

الدلالة الفكرية للحوار

  • استخدم إبراهيم آلية المفارقة العقلية، حيث نسب الفعل إلى كبير الأصنام كي يجعل القوم يعترفون ضمنيًا بعدم قدرة الأصنام على الفعل.
  • استندت حجته إلى منطق داخلي يجبر الخصم على الاعتراف بالحقيقة بنفسه، مما يجعله أكثر تأثيرًا من مجرد التصريح المباشر بعدم جدوى عبادة الأصنام.
  • تدرجت ردود الفعل من الإدراك إلى الإنكار، مما يعكس طبيعة الجدال في المجتمعات التقليدية، حيث يصعب الاعتراف بالخطأ حتى لو كان الدليل واضحًا.

الخلاصة

تحليل النصوص يكشف أن النبي إبراهيم لم يكن بصدد الكذب، بل كان يستخدم استراتيجية خطابية لجعل قومه يدركون بطلان عقيدتهم. أسلوبه في الحوار لم يكن تضليلاً، بل كان توظيفًا للمنطق والتفكير الجدلي لكشف التناقض في عقيدتهم بطريقة تدفعهم للتساؤل وإعادة النظر في إيمانهم.