مفهوم “العلم اللدني” واتقوا الله ويعلمكم”
يتداول بعض الناس مصطلح “العلم اللدني” ويزعمون أنه نوع من المعرفة يمنحه الله للإنسان بشكل مباشر دون دراسة أو تعلم، مستندين إلى قوله تعالى:
“وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا”(الكهف 65)
وكذلك قولهم بأن التقوى وحدها كافية لاكتساب العلم، استنادًا إلى الآية:
“وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ”(البقرة 282)
لكن عند تدبر النصوص القرآنية وفهمها ضمن سياقاتها الصحيحة دون عضوضة لها، يتضح أن هذا الفهم غير دقيق، بل يُحَمّل النصوص أكثر مما تحتمل، ويؤدي إلى الاعتقاد بإمكانية الحصول على العلم دون جهد أو تعلم، وهو ما يخالف سنن الله في الكون.
العلم بالتعلم والدراسة والتجربة
يقرن القرآن العلم دائمًا بالتعلم، والتجربة، والصبر، والزمن. فالمعرفة لا تأتي فجأة، بل هي عملية متدرجة تتطلب جهدًا واستمرارية. ومن الآيات التي تؤكد ذلك:
- “وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا” (طه 114) – طلب الزيادة في العلم يتطلب التعلم المستمر.
- “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” (العلق 1) – أول ما أنزل من الوحي كان أمرًا بالقراءة، وهي أساس التعلم.
- “نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ” (يوسف 76) – إشارة إلى أن العلم درجات، يترقى فيها الإنسان بالسعي والاجتهاد.
فهم الآية: “وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا”
هذه الآية تتحدث عن العبد الصالح الذي التقاه موسى عليه السلام، والذي أعطاه الله علمًا خاصًا متعلقًا بأمر معين. لكنه ليس علمًا عامًا يمكن لأي شخص اكتسابه دون دراسة، بل هو علم مرتبط بمهمة ووحي إلهي، مثلما كان وحي الأنبياء، ولا يمكن تعميمه على غيرهم.
كما أن موسى لم يكتفِ بسماع خبر العلم، بل سعى بنفسه لمرافقته والتعلم منه، مما يدل على أن العلم لا يُمنح دون سعي واجتهاد.
فهم الآية: “وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ”
يستشهد البعض بهذه الآية ليقولوا إن التقوى وحدها كافية لاكتساب العلم، لكن عند قراءة النص كاملًا وإرجاع الجملة لمكانها يتضح أن التعليم المقصود هنا هو التقيد بالأوامر السابقة في الآية، وليس اكتساب علم جديد دون دراسة.
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ….” (البقرة 282) ثم أتى في نهايتها: “وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”
أي أن التعليم هنا يتعلق بتطبيق ما أمر الله به من العدل والتوثيق في المعاملات المالية، وليس منح علم غيبي أو معرفة مباشرة دون تعلم.
الفرق بين علم الوحي والعلم المكتسب
القرآن يميز بين نوعين من العلم:
- علم الوحي: خاص بالأنبياء، ينزل إليهم دون اجتهاد منهم، لأنه هداية إلهية.
- العلم المكتسب: يتطلب تعلمًا وسعيًا وتجربة، وهو متاح لكل الناس.
ومن الخطأ الخلط بينهما والاعتقاد بأن العلم يمكن أن يأتي دون جهد لمجرد التقوى.
الاستنتاج
العلم في القرآن مرتبط دائمًا بالسعي والاجتهاد، وليس بالإلهام المباشر كما يدعي الصوفيون وبعض المفسرين.
- “العلم اللدني” في سياقه الصحيح هو علم خاص من الله لشخص مكلف بمهمة معينة، وليس علمًا عامًا متاحًا لأي شخص.
- التقوى ليست سببًا كافيًا لاكتساب العلم، بل هي عامل مساعد يوجه الإنسان للسلوك الصحيح أثناء التعلم، والعلم بالتعلم.
وعليه، فإن مقولة أن الإنسان يمكن أن “ينام جاهلًا ويستيقظ عالمًا” بسبب تقواه لا أساس لها من القرآن، بل هي خرافة تعطل سنن الله في التعلم والاكتساب المعرفي.
اضف تعليقا