تدبر “وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا “
تتناول الآيات من سورة مريم (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
مشهدًا تفصيليًا لحشر الكافرين والشياطين حول جهنم، وتحديد مصير كل واحد منهم وفقًا لجرمه، وصولًا إلى الآية [وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا] ( مريم: 71) التي أثارت الكثير من التساؤلات حول شمولية ورود النار لكل الناس، بمن فيهم المؤمنون والمتقون، أم أنها خاصة بالكافرين والشياطين فقط. في هذا التحليل، سنعتمد المنهج المنظومي في قراءة النصوص القرآنية وربطها ببعضها البعض لفهم المعنى الدقيق لهذه الآية.
أولًا: السياق النصي للآيات من سورة مريم (68-72)
تبدأ الآيات بمشهد الحشر والعرض على جهنم:
- (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَٰطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) (68)
الحديث عن الكافرين والشياطين فقط، ولا ذكر للمؤمنين في هذا السياق.
2- (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا) (69)
يُؤكَّد هنا أن الفرز بقوة يتم داخل الكافرين أنفسهم، حيث يُؤخذ أشدهم طغيانًا للبدء بالعقاب.
- (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا ) (70)
تحديد أن العقوبة تتم وفقًا للجرم، أي أن كل شخص سيأخذ نصيبه وفق استحقاقه. - (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًۭا مَّقْضِيًّۭا) (71)
هنا تأتي الآية التي قد يُساء فهمها على أنها تعني ورود النار لكل الناس، ولكن عند تحليل السياق نجد أن الخطاب لا يزال مستمرًا حول الكافرين فقط. - (ثُمَّ نُنَجِّى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوا۟ وَنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) (72)
النجاة تعني عدم الوقوع في العذاب أصلًا، وليس الخروج بعد الدخول، وهذا دليل واضح على أن المتقين لم تشملهم الآية (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا).
ثانيًا: مفهوم “الورود” في القرآن
الورود في اللسان القرآني لا يعني دائمًا الدخول، بل قد يعني الاقتراب أو المرور من مكان معين، كما في قوله تعالى عن قوم موسى:
(وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ) (القصص: 23)
هنا “الورود” لا يعني النزول في الماء، بل مجرد الوصول إليه.
وبالتالي، فإن ورود جهنم يكون خاصًا بالكافرين الذين يُحشرون حولها، دون أن يعني أن الجميع سيدخلها.
ثالثًا: هل يدخل المؤمنون والمتقون النار أصلًا؟
لإثبات أن المؤمنين لا يدخلون النار أصلًا، يمكن العودة إلى النصوص التي تؤكد سرعة دخولهم الجنة بلا عذاب:
- دخول المتقين بلا انتظار ولا عذاب:
(وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْا۟ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ زُمَرًۭا حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَٰلِدِينَ) (الزمر: 73)
لا ذكر للمرور بالنار، بل دخول مباشر للجنة. - دخول الجنة فور الموت للمؤمن الصالح:
(ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: 32)
أمر مباشر بالدخول دون عذاب أو اختبار في النار.
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ }يس26
➡ هذا الرجل المؤمن دخل الجنة مباشرة بعد قتله، دون المرور بالنار.
- دخول المؤمنين الجنة دون خوف أو عقوبة:
(وَأُدْخِلَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَٰمٌۭ) (إبراهيم: 23)
استخدام صيغة الماضي “أُدْخِلَ” يدل على الدخول الفوري، لا المرور بعذاب.
(لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا۟ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌۭ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌۭ وَلَا ذِلَّةٌۭ ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ) (يونس: 26)
لا يُصيبهم أي خوف أو ذلة، مما يعني أنهم لم يمروا بالنار أصلًا.
الخلاصة:
هل تشمل {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} المؤمنين؟
- السياق النصي واضح أن الحديث عن الكافرين والشياطين فقط، وليس عن جميع الناس.
2- النجاة في قوله {ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوا۟} لا تعني الخروج من النار بعد دخولها، بل تعني عدم الوقوع فيها أصلًا.
3- النصوص الأخرى تؤكد أن المؤمنين يدخلون الجنة فورًا وبلا عذاب، مما ينفي شمولهم في ورود النار.
النتيجة:
الآية (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) لا تعني أن جميع الناس، بمن فيهم الأنبياء والصالحون، سيمرون على النار، بل هي خاصة بالكافرين والشياطين الذين ورد ذكرهم في السياق السابق.
اضف تعليقا