مفهوم البشر و الإنسان في القرآن
يعرض القرآن الكريم مفاهيم الإنسان والبشر بشكل دقيق، مما يستدعي دراسة لسانية ومنطقية متأنية لفهم الفرق بينهما. إن النصوص القرآنية في سورة الحجر تسلط الضوء على عملية الخلق، حيث يرد ذكر “الإنسان” أولًا في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر: 26)، ثم يُذكر “البشر” لاحقًا في قوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر: 28). كما تذكر الآيات خلق الجان من نار السموم قبل خلق الإنسان.
الفرق بين الإنسان والبشر وأسبقية الوجود
تحليل دلالي للمصطلحين
- الإنسان: من الجذر “أنس”، ويشير إلى الكائن العاقل المدرك القادر على التفاعل الاجتماعي والمعرفة والتجربة.
- البشر: من الجذر “بشر”، ويرتبط بالمظهر الحسي والملمس الخارجي، أي الجسد المادي الذي يكتسي بجلد بشري.
انطلاقًا من هذا التحليل، يمكن فهم أن الإنسان هو الكائن الذي يمتلك الإدراك والوعي، في حين أن “البشر” يشير إلى الهيئة المادية لهذا الكائن. هذا يقود إلى أن البشر هو الوصف الجسدي للإنسان، أي أن كل إنسان هو بشر، لكن ليس كل بشر إنسانًا حتى يمتلك صفات الإدراك.
القرآن يخاطب الإنسان لا البشر
من الملاحظ أن الخطاب في القرآن دائمًا موجه إلى “الإنسان” وليس إلى “البشر”، لأن الإنسان هو الكائن العاقل المسؤول عن الفعل والتلقي، وهو محل الإيمان أو الكفر. ومن الأمثلة على ذلك:
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ }الانفطار6
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ }الانشقاق6
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }إبراهيم34
{وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً }الإسراء11
{وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً }مريم66
أما البشر، فهو ليس محل الخطاب، بل محل الكلام عنه في سياق الخلق والوصف الجسمي وإثبات النوع، كما في:
- (إِنْ أَنَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الكهف: 110)
- (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا) (الحجر: 28)
- {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }آل عمران47
- {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }المائدة18
الترتيب في الآيات: أسبقية الإنسان أم البشر؟
يُذكر “الإنسان” أولًا في سورة الحجر قبل “البشر”، مما قد يثير تساؤلًا حول ترتيب الوجود. لكن لا يمكن الجزم بأن ترتيب الذكر يعكس ترتيب الخلق، لأن النص القرآني ليس معنيًا بالسرد الزمني بل بالبيان المفاهيمي. فذكر “الإنسان” أولًا يعكس أهمية هذا الكائن باعتباره محور الخطاب القرآني، بينما يأتي ذكر “البشر” لاحقًا ليبين الخصائص الجسمية لهذا الكائن. أي أن الآية تشير إلى خلق الإنسان ابتداء من الطين المتحول (الصلصال من حمأ مسنون)، وهو ذاته المكوّن المادي للبشر.
كما في قوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ }السجدة7
هذا البدء من حيث الأصل البشري، وفيما بعد صار تكاثر الإنسان من ماء مهين:
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ }النحل4
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ }السجدة8
كيف خُلق الإنسان والبشر من صلصال من حمأ مسنون؟
تشير الآيات إلى أن مادة الخلق هي “صلصال من حمأ مسنون”، وهو طين متغير بفعل الزمن والتحلل. وهذا يعكس عملية تطورية فيزيائية وكيميائية تم فيها تشكيل الجسد المادي (البشر) قبل أن يُنفخ فيه من الروح ليصير إنسانًا. وعليه، فالبشرية تمثل الجانب العضوي البيولوجي، في حين أن الإنسانية تمثل الجانب العقلي والإدراكي. ( النفس).
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }الحجر29
والنفخ فيه من الروح والتسوية تعني أن البشر نزلت فيه النفس فصار إنساناً، وليس النفخ في الإنسان وصار بشراً!.
خلق الجان قبل الإنسان: دراسة المفهوم
تشير الآية {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (الحجر: 27) إلى أن الجان مخلوق قبل الإنسان. لكن يجب التنبه إلى أن الجان في القرآن ليس كائنًا شبحيًا بل صفة قد تكون لازمة للكائن مثل الملائكة والنفس، وقد تكون عارضة تنفك عن الكائن مثل الجنين عندما يولد بفقد صفة الجنية، فالنص يتكلم عن النفس ذات الطبيعة النارية أو الطاقية. فالنار هنا تشير إلى طاقة أو شكل من أشكال الحياة التي سبقت اكتمال الإنسان، مما يعني أن النفس (الجان) كانت موجودة قبل المادة، إذ أن الطاقة هي الأساس في التكوين قبل تبلور المادة، والخلق تم من نفس واحدة من خلال أخذ منها نفوس صورة طبق الأصل عن بعضها ولذلك النفس لا نوع لها ولا تكبر ولا تفنى وتتحلل بل يتم توفيها بعد تشكيلها من صاحبها في الحياة الدنيا فتتمايز عن النفوس الأخرى.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1
الاستنتاج
- الإنسان هو الكائن الواعي العاقل، والبشر هو المظهر الجسمي له.
- الخطاب في القرآن موجه للإنسان وليس للبشر، لأن الإنسان هو محل المسؤولية.
- لا يوجد ترتيب زمني في النصوص بين ذكر الإنسان والبشر في القرآن، بل الترتيب دلالي يوضح العلاقة بين الإدراك والهيئة الجسمية.
- خلق الإنسان والبشر كان من المادة ذاتها (الصلصال من حمأ مسنون)، حيث تشكل الجسد (البشر) ثم نُفخ فيه من الروح ليصير إنسانًا.
- الجان ليس مخلوقًا شبحيًا بل يمثل النفس التي خُلقت من طاقة قبل أن تتجسد في المادة.
هذا التدبر وفق المنظومة القرءانية والواقع والذي يقتضيه المنطق
اضف تعليقا