ثقافة الأموات بين الامتثال للماضي وفقدان الحاضر

       تلعب الثقافة دورًا جوهريًا في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات، إلا أن بعض الثقافات قد تتحول إلى قيود تمنع الإنسان من التفاعل مع واقعه بوعي مستقل. ومن أبرز هذه الظواهر ثقافة الأموات، حيث يعيش الأحياء تحت سيطرة عقول من سبقوهم، فيرون بأعينهم، ويتحركون وفق رؤاهم، مما يجعلهم فعليًا خارج الزمن الحي، وكأنهم موتى في جسد حي. يتناول هذا المقال أثر ثقافة الأموات على المجتمعات، وكيف انتقد القرآن الكريم اتباع الأكثرية وتقديس الأسلاف، مشيرًا إلى خطورة هذا السلوك على الوعي الإنساني والتقدم الحضاري.

أولًا: ثقافة الأموات وتجلياتها في الحاضر

ثقافة الأموات هي تلك المنظومة الفكرية التي تجعل الأحياء مجرد امتداد للماضي، حيث يتقمصون عقول أسلافهم ويتعاملون مع الحاضر بأدوات الأمس. يظهر ذلك في جوانب عدة، مثل:

  1. اتباع التقليد الأعمى: حيث يصير كل جديد مرفوضًا لمجرد أنه لم يكن معهودًا عند السابقين.
  2. الاستناد إلى الأموات في اتخاذ القرارات: يتم استحضار أقوالهم وأفعالهم كمرجعية مقدسة، بصرف النظر عن تغير السياقات والظروف.
  3. رفض النقد والتطوير: فكل محاولة لإعادة النظر في الموروث تُواجَه بالاتهام بالانحراف والابتعاد عن “طريق الأجداد”.

ثانيًا: نقد القرآن لاتباع الأكثرية والآباء

انتقد القرآن الكريم بوضوح ظاهرة الامتثال الأعمى للأغلبية والأسلاف، معتبرًا ذلك سلوكًا يؤدي إلى الضلال وفقدان الوعي بالحقيقة. ومن الآيات التي تناولت ذلك:

  • ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًۭٔا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170)
    وهنا يظهر رفض القرآن لمنطق “هكذا وجدنا آباءنا”، لأنه يكرّس الجمود العقلي ويجعل الإنسان يدور في دائرة مغلقة من التقليد.
  • ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ (الأنعام: 116)
    مما يدل على أن الكثرة ليست دليلًا على الحق، وأن الحق لا يُقاس بعدد متّبعيه، بل بمنطقيته وقيمته الحقيقية.

ثالثًا: خسارة الحاضر وضياع الذات

عندما يصير الإنسان مجرد وعاء لعقول الأموات، فإنه يفقد القدرة على التفاعل مع الواقع، لأنه:

  1. يعيش في زمن غير زمنه: إذ يُقيّم الأحداث الراهنة بمنطق الماضي، مما يخلق فجوة بينه وبين واقعه.
  2. يُعطّل العقل والإبداع: فالتقليد الأعمى يجعل التفكير المستقل أمرًا غير مرحب به، ويمنع التطور.
  3. يفقد ذاته: إذ لم يعد يعيش وفق فهمه وإدراكه، بل وفق ما قرّره السابقون، فيتحول إلى مجرد استنساخ لهم.

خاتمة

ثقافة الأموات ليست مجرد حالة فكرية، بل هي أزمة وجودية تجعل الإنسان ميتًا عمليًا حتى وإن كان حيًا بجسمه. فالقرآن رفض تقديس الماضي، ودعا الإنسان إلى الوعي والنظر بعين نفسه لا بعين غيره، حتى يكون حاضرًا في زمنه، فاعلًا في واقعه، بدلًا من أن يكون مجرد ظلّ لمن سبقوه.