الحرية منحة أم حق

       لطالما كان مفهوم الحرية محل جدل فكري وفلسفي، حيث يتراوح بين رؤيتين متناقضتين: الأولى تعد الحرية حقًا أصيلًا للإنسان، والثانية تعرضها كمنحة تُمنح أو تُمنع وفقًا لاستحقاق الشعوب. وقد تم تبرير العديد من أنظمة الاستبداد عبر التاريخ بمقولة أن “الشعوب لا تستحق الحرية”، ما يبرر الحاجة إلى الحكم السلطوي لضبطها. غير أن هذا العرض يتجاهل أبعادًا جوهرية، أبرزها أن الحرية حق إنساني أساسي، وأن تحقيقها يرتبط بمستوى الوعي والمعرفة وليس بإنكارها أو استبدالها بالقمع.

أولًا: الحرية بين المنحة والاستحقاق

إن اعتبار الحرية “منحة” يعني أن هناك سلطة عليا تمتلك حق منحها أو حجبها، ما يتناقض مع الأسس الإنسانية والفلسفية والحقوقية التي قامت عليها المجتمعات الحديثة. فمنذ إعلان حقوق الإنسان، تم التأكيد على أن الحرية جزء لا يتجزأ من الكرامة الإنسانية. فالإنسان يولد حرًا، وليس بحاجة إلى إذن لممارسة حريته، بل يحتاج إلى بيئة تساعده على ممارستها بشكل مسؤول.

أما القول بأن الحرية “استحقاق”، فيفترض وجود معايير تحدد من هو “المؤهل” لممارستها، ما يؤدي إلى خلق تمييز طبقي أو ثقافي يبرر الاستبداد. وهنا، يجب التفريق بين “الحرية” كحق ثابت، وبين “ممارسة الحرية” التي تحتاج إلى وعي ومسؤولية.

ثانيًا: تفكيك مقولة “الشعوب لا تستحق الحرية”

يردد البعض أن الشعوب التي تعاني من الفوضى أو التخلف لا تستحق الحرية، لأن منحها الحرية سيؤدي إلى مزيد من الفوضى والانهيار. لكن هذا العرض يعكس رؤية اختزالية تتجاهل الأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى غياب الممارسة السليمة للحرية، والتي غالبًا ما تكون نتيجة لغياب التعليم والوعي، وليس لعدم استحقاق الحرية بحد ذاتها.

إن الشعوب لا تولد غير مؤهلة للحرية، لكنها قد تعاني من ضعف في مستوى الوعي والثقافة السياسية، وهنا يكمن الحل في الاستثمار في التعليم والتدريب، وليس في فرض الاستبداد كبديل. فالاستبداد يعمّق الجهل ويزيد من تراجع الشعوب، بينما رفع مستوى الوعي يهيئها لممارسة الحرية بشكل مسؤول.

ثالثًا: الحرية والوعي: العلاقة الجدلية

الحرية ليست مجرد غياب القيود، بل هي ممارسة مسؤولة تتطلب مستوى معينًا من الوعي والمعرفة. لذا، فإن الحل لا يكمن في إنكار الحرية أو قمعها، بل في خلق بيئة تُمكّن الأفراد من ممارستها بوعي.

وهذا يستدعي نهجًا طويل الأمد يقوم على:

  1. التعليم: نشر المعرفة وترسيخ ثقافة النقد والتفكير الحر.
  2. التدريب السياسي: تعزيز التجربة الديمقراطية من خلال التربية على المواطنة والمشاركة الفعالة.
  3. الصبر التدريجي: لا يمكن تحقيق ممارسات ديمقراطية ناضجة بين ليلة وضحاها، بل تحتاج المجتمعات إلى الوقت والتجربة.

خاتمة

الحرية ليست منحة من سلطة عليا، ولا هي امتياز يُمنح وفقًا لاستحقاق مزعوم، بل هي حق أصيل للإنسان. وإذا كانت بعض الشعوب غير قادرة على ممارستها بشكل مثالي، فإن الحل ليس في نفي الحرية، بل في رفع مستوى الوعي والتعليم ليتمكن الأفراد من ممارستها بشكل مسؤول. والاستبداد ليس علاجًا، بل هو تكريس لمشكلة الجهل والفوضى. ومن هنا، فإن أي مشروع تنموي حقيقي يجب أن يضع الحرية، جنبًا إلى جنب مع المعرفة، في قلب إستراتيجيته الإصلاحية.