لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا

الدقة في اختيار المفردات من الأمور المحورية في الخطاب القرآني، حيث إن لكل كلمة مفهوم ومعاني متعددة حسب السياق تؤثر في فهم الرسالة الموجهة للمؤمنين. ومن هنا نجد أن التوجيه القرآني بقوله:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }البقرة104

 يستدعي إعادة النظر في لفظ “راعنا” من منظورات لسانية ومنطقية وإيمانية، إذ إنه يحمل في طياته دلالات سلبية ومحدودة لا تليق بمقام الإنسان العاقل. سنتناول في هذه الدراسة إعادة تحليل النص مع التفريق بين مفهومي “الرعاية” و”الرعونة” والعناية، لنوضح سبب التصويب واستبدال “راعنا” بـ”انظرنا” في سياق الدعاء.

أولاً: النص القرآني وسياقه

  1. النص الكامل:
    جاء في القرآن الكريم:

“{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }البقرة104

وهو توجيه إلهي يبيّن للمؤمنين كيفية صياغة الدعاء والخطاب بحيث يرتقي القائل بأسلوبه ويعبر عن كرامة الإنسان.، وحُسن الخطاب.

  1. السياق القرآني:
    يُبين هذا التوجيه أن المؤمنين لا ينبغي أن يخاطبوا الله أو النبي أو أي كائن بطلب “راعنا” ولو كان قصدهم حسن ، لأن الكلمة “راعنا” تختلط مع كلمة الرعاية من الرعي التي  تُعنى برعاية المواشي {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى }طه54، بل يجب أن يطلبوا “النظرة” الشاملة والوافية التي تنم عن الاعتبار الكامل والاهتمام الحكيم الذي يليق بمقامهم ككائنات عاقلة.

ثانياً: التحليل اللساني لمفردات النص

  1. لفظ “راعنا”
  • الأصل والجذر:
    لفظ “راعنا” مشتق من جذر يُظهر دلالات تختلف عن مفهوم “الرعاية” الحقيقية، فهو لا يستمد معانيه من جذر رَعَى الذي يدل على رعاية المواشي، بل هو من ” رعن”و “الرعونة”.
  • الدلالات المحتملة لكلمة “راعنا”:
    • من ناحية “الرعاية”:
      يُستخدم في سياق الأنعام للدلالة على رعاية المواشي والاهتمام بها لمصلحة الراعي، وهو نوع من الاهتمام المادي الذي يتعلق بمنفعة للفاعل فهو يسمن العجول ويرعاها لمصلحته  وليس لمصلحة العجل، وبالتالي القول “راعنا” لا يحمل في طياته تقدير الإنسان أو احترام كرامته، ولو أن القائل لا يقصد هذا المعنى ولكن لفظه خطأ قطعًا وينبغي أن يُحسن اختيار لفظه بشكل ثقافي وأخلاقي .
    • من ناحية “الرعونة”:
      يشير مفهوم “الرعونة” إلى حالة من الفُرْط في التقاعس أو الهفوة؛ أي اضطراب في السلوك والتفكير، مما يوحي بأن من ينادي بهذا اللفظ قد يقع في حالة من الجهل أو اللامبالاة، لا تليق بسمو العقل.
  1. لفظ “انظرنا”
  • المعنى اللساني
    يأتي الفعل “انظر” من جذر نَظَرَ، والذي يشير إلى الإمعان والتأمل والاهتمام البصير، وهو ما يتناسب مع مقام الإنسان الذي يُطلب منه استخدام العقل والتفكير.
  • الدلالات الداعية للارتقاء:
    يعكس طلب “انظرنا” رغبة المؤمن في الحصول على نظرة إلهية شاملة وعناية ترتقي بمستوى الدعاء، لتكون معبرة عن اعتبار الله لعباده بما يليق بكرامتهم وعقلانيتهم.

 

ثالثاً: الفرق بين “الرعاية” و”الرعونة”

  1. الرعاية:
  • المعنى:
    تشير إلى الاهتمام الذي يُقدم للمخلوقات غير العاقلة، خاصةً في السياق العملي؛ مثل رعاية المواشي التي تُدار بهدف تحقيق منفعة الراعي، حيث يكون الهدف الأساسي هو خدمة المصالح العملية والمادي للراعي.
  •  2. الرعونة:
  • المعنى:
    تُشير إلى حالة من اللامبالاة أو الهفوة والاضطراب في التفكير والسلوك، وهو ما يدل على نقص في الوعي أو عدم إدراك للأمور بعمق.
  • الدلالة السلبية:
    إن استخدام لفظ “راعنا” بمفهوم الرعونة يُوحي بأن المؤمنين في نظر بعضهم لأنفسهم أو في نظر من يخاطبهم، كما لو أنهم في حالة من الجهل أو عدم القدرة على تمييز معاني الدعاء السليم؛ مما ينم عن ضعف في السلوك الفكري والروحي.

رابعاً: التصويب القرآني ومغزاه

  1. المغزى اللساني والمنطقي للتصويب:
    • إن التوجيه الإلهي بعدم استخدام “راعنا” واستبدالها بـ”انظرنا” ينبع من ضرورة رفع مستوى الدعاء لينال معاني الاعتبار الشامل والعناية البصيرة.
    • إذ أن لفظ “راعنا” يذكرنا برعاية المواشي التي تخدم مصلحة الراعي فقط، أو يوحي بحالة من الرعونة؛ وهي دلالات لا تليق بالمؤمن الذي ينبغي أن يطلب عناية إلهية تعكس التقدير الكامل والاهتمام العميق.
  2. المغزى القرآني:
    • يُبين التصويب أن العلاقة بين العبد وربه يجب أن تكون مبنية على الاعتناء الرفيع (أي “يعتني” به) وليس على رعاية سطحية تشبه ما يُقدم للمواشي أو رعونة في التفكير والسلوك.
    • فالطلب بـ”انظرنا” يُعبر عن التوجه نحو نظرة إلهية متفحصة وبصيرة شاملة تعكس حكمة الله ورحمته، وهو ما يليق بالإنسان العاقل ذي الكرامة الرفيعة.

خامساً: الآثار العملية للتصويب على الدعاء والعلاقة الإلهية

  • رفع مقام الدعاء:
    من خلال التصويب إلى “انظرنا”، يُدعى المؤمن إلى الاعتراف بكامل قدرته العقلية ، مما يُغير من نظرة الإنسان لنفسه وللعلاقة مع خالقه، بعيدًا عن تصور الدونية أو التشبيه بالمواشي أو اضطراب في تفكيره وسلوكه.
  • تأكيد الكرامة الإنسانية:
    يسلط التصويب الضوء على أن الله تعالى لا يتعامل مع عباده كما يُراعى الحيوان لصالح مالكه، بل يُعلي من شأن الإنسان ويمنحه نظرة شمولية تتضمن الحكمة والرحمة.
  • تصحيح الفهم العقلي:
    إن الفرق بين “الرعاية” و”الرعونة” العقلية يُعيد للمؤمن وعيه بأن الدعاء ينبغي أن يعكس كرامته وعقله، فلا يكون مجرد تكرار لأسلوب يُستخدم في رعاية الأنعام،  ورعونة في السلوك ؛ بل هو تعبير عن طلب عناية إلهية متميزة ترتكز على البصيرة والتقدير الرفيع.

خاتمة

تُظهر الدراسة أن استخدام لفظ “راعنا” في الدعاء يحمل معاني غير لائقة؛ فهو إما يستحضر مفهوم الرعاية المخصصة للمواشي التي تُدار لمصلحة الراعي، أو يوحي بحالة من الرعونة التي تدل على اضطراب في السلوك والتفكير. ومن هنا جاء التصويب القرآني بالتوجيه إلى قول “انظرنا”، ليعكس بذلك طلب المؤمن لعناية إلهية شاملة تبعث على الكرامة والعقلانية. إن هذا التصويب يؤكد على أهمية رفع مستوى الخطاب وتصويبه ولو كان قصده حسناً، لينال الإنسان الاعتبار الذي يستحقه، مُتجاوزًا بذلك دلالات الرعاية التي تنفي عقله ومسؤوليته وتجعله كالمواشي ، والرعونة التي لا تليق بالمؤمنين.

بهذا نكون قد أعدنا دراسة النص بالتفصيل، مفرقين بوضوح بين مفهومي “الرعاية” و”الرعونة” و”العناية”، ومبينين سبب ضرورة استبدال لفظ “راعنا” بـ”انظرنا” في سياق الدعاء الإلهي.، أو خطاب للمسؤولين والناس عموماً.