مقياس السياسة ليس العدالة والحق
لطالما ارتبطت السياسة في المخيال الجماعي بمفاهيم مثل العدالة والحق والشرعية، لكن الواقع يبرهن على أن السياسة ليست سوى أداة لتحقيق المصالح، سواء كانت مصالح الدول أو النخب الحاكمة. لا تهتم الدول والقادة السياسيون بالمبادئ الأخلاقية إلا بقدر ما تخدم أجنداتهم، حيث تقوم الممارسات السياسية على البراغماتية التي تضع المصلحة فوق كل اعتبار، حتى لو كان ذلك على حساب تدمير أوطان وتشريد شعوب أو حصد أرواح الملايين.
السياسة بين المثالية والواقع
يتجلى الفارق بين السياسة كمفهوم نظري وبين ممارساتها الواقعية في التناقض بين الشعارات والقيم التي ترفعها الدول والمؤسسات الدولية وبين السياسات الفعلية التي تنتهجها. فعلى الرغم من أن الديمقراطيات الليبرالية تدّعي التزامها بمبادئ حقوق الإنسان والعدالة، فإنها في الواقع تتدخل في شؤون الدول الأخرى لتحقيق مصالحها الاقتصادية أو الجيوسياسية، حتى لو كان ذلك عبر دعم أنظمة استبدادية أو التسبب في حروب وصراعات.
من ناحية أخرى، تُظهر الدول ذات التوجهات السلطوية براغماتية أكثر وضوحًا، حيث لا تبالي بأي قضايا أخلاقية، بل تدير سياساتها بناءً على اعتبارات القوة والنفوذ والاستقرار الداخلي، وهو ما يفسر دعم الأنظمة الاستبدادية لبعضها البعض، والتدخل في شؤون الدول الضعيفة دون أي اعتبار لمفاهيم العدالة أو الحقوق.
المصالح كمعيار في العلاقات الدولية
إن العلاقات الدولية تُدار وفق مبدأ “لا أصدقاء دائمين، ولا أعداء دائمين، بل مصالح دائمة”، وهو ما يمكن ملاحظته في التحالفات المتغيرة بين الدول، حيث يمكن لدول كانت على عداء تاريخي أن تصبح شريكة في حال اقتضت المصالح ذلك، والعكس صحيح.
على سبيل المثال، لم يكن للدول الكبرى أي حرج في دعم أنظمة استبدادية إذا كانت تحقق لها مصالح اقتصادية أو إستراتيجية، في حين يتم التخلي عن هذه الأنظمة فور انتهاء فائدتها، وهو ما يفسر الازدواجية في التعامل مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
الأوطان كضحايا لصراع المصالح
إن أخطر نتائج السياسة البراغماتية هو تأثيرها على استقرار الدول والمجتمعات. فمن أجل تحقيق أهدافها، لا تتردد الدول في تأجيج النزاعات الداخلية في بلدان أخرى، ودعم الحركات الانفصالية، وتمويل الانقلابات العسكرية، وإشعال الحروب الأهلية، ما يؤدي إلى تدمير الدول وتشريد الشعوب وخلق أزمات إنسانية كارثية.
الصراعات في الشرق الأوسط، والحروب في أفريقيا، والأزمات السياسية في أمريكا اللاتينية، كلها نماذج واضحة على كيفية تعامل الدول الكبرى مع الدول الضعيفة كمجرد ساحات لتصفية الحسابات وتحقيق المصالح دون أدنى اعتبار لمصير الشعوب.
خاتمة
السياسة ليست ساحة للمُثل والأخلاق، بل هي ميدان لحسابات المصالح، والبراغماتية هي التي تحكم سلوك الدول والقادة السياسيين. إن تجاهل هذه الحقيقة يجعل الشعوب عُرضة للتضليل بشعارات جوفاء عن العدالة والحق، بينما يتم رسم السياسات الفعلية على أسس باردة من الربح والخسارة، دون أي اكتراث بمصير الأوطان والناس.
اضف تعليقا