الحرية و العبودية

       يهدف هذا البحث إلى تحليل مفهوم الحرية في القرآن الكريم، وبيان أن عدم ورود مصطلح “الحرية” بشكل صريح لا يعني غياب المفهوم، بل إن القرآن كله مبني على افتراض أن الإنسان كائن عاقل مسؤول عن اختياراته. كما يناقش البحث قضية العبودية وعدم وجود نص صريح يحرمها، ويؤكد أن ذلك تحصيل حاصل لكون العبودية تتناقض مع الأسس القرآنية التي تقوم على العدل والمسؤولية ورفض الظلم.

      إن الخطاب القرآني موجَّه للإنسان العاقل المسؤول، وهو خطاب تكليف وتشريع، مما يستلزم ضمنيًا أن الإنسان يتمتع بحرية الإرادة والاختيار. ولو لم يكن الإنسان حرًا في الأساس، لما كان مكلفًا ولا مسؤولًا أمام الله. فالحرية في القرآن ليست مجرد حق، بل هي جوهر الوجود الإنساني ذاته، وهي الأساس الذي يُبنى عليه مفهوم الثواب والعقاب.

  1. القرآن وإثبات حرية الإنسان

القرآن الكريم يزخر بالآيات التي تثبت حرية الإنسان في الاعتقاد والعمل، ومن أبرزها قوله تعالى:

  • ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256)؛ وهذه الآية تدل بشكل قطعي على أن الإنسان غير مُكره على الإيمان.
  • ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29)؛ تؤكد هذه الآية حرية الاختيار، إذ تركت الأمر للإنسان ليقرر بنفسه.
  • ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الإنسان: 3)؛ تثبت هذه الآية أن الإنسان هو الذي يحدد مصيره.
  • ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ (ق: 45)؛ توضح هذه الآية أن النبي نفسه لم يُكلَّف بإجبار الناس على الإيمان.
  • {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }يونس99

إضافة إلى ذلك، فإن مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وحساب الله له يوم القيامة، دليلٌ قاطع على أنه كائن حر، لأن الثواب والعقاب لا يكونان إلا لمن كانت له حرية الإرادة والاختيار. {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ }الصافات24

  1. عدم ورود نص تحريم صريح للعبودية في القرآن

لم يرد في القرآن نص حرفي يُحرم العبودية بصيغتها التقليدية، إلا أن ذلك لا يعني أن الإسلام قد أقرَّ بها، بل إن تحريمها من المسلمات متضمن ضمن القواعد العامة التي جاء بها القرآن، مثل:

  • تحريم الظلم: العبودية هي شكل من أشكال الظلم الفاحش، والقرآن يحرم الظلم بشكل مطلق: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90).

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ }الشورى42

  • تكريم الإنسان: أكد القرآن أن الإنسان مكرَّم بطبيعته: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70)، مما يتناقض مع استعباده أو معاملته كسلعة.
  • تحريم العدوان: قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة: 190)، ولا شك أن استعباد إنسان هو من أقسى أشكال الاعتداء.
  • العدل والمساواة: أكدت تعاليم القرآن على مبدأ العدل، حيث لا يمكن تصور مجتمع عادل يُسمح فيه بامتلاك إنسان لآخر.
  • مقام الخلافة للجنس الإنساني كله وليس لبعضه

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30

بالتالي، فإن عدم وجود نص حرفي يُحرم العبودية لا يعني إباحتها، بل لأن الحرية هي الأصل، والعبودية خروج عن هذا الأصل، فكان عدم ذكر تحريمها لأنها تحصيل حاصل.

  1. مفهوم العبادة في القرآن

يجب فهم مفهوم “العبادة” في سياق قرآني متكامل:

  • كلمة “عبد” التي جمعها “عباد” لا تعني أن الإنسان مملوك أو مهدورة كرامته، بل تشمل جميع البشر دون تمييز بين مؤمن وكافر، كما في قوله تعالى

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }البقرة186

{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }المائدة118

  • العبادة في القرآن لا تعني القسر والإذلال، بل تعني الامتثال والطاعة الاختيارية، والتي تتضمن إمكانية الكفر والعصيان كما في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، أي ليكونوا في دائرة الاختيار بين الإيمان والكفر.
  • مفهوم العبادة يتسع ليشمل حالتي الخضوع التام لله أو الاختيار الحر للكفر والعصيان، كما يظهر في السياقات المختلفة لاستخدام الجذر “عبد”.
  • الإنسان الذي يفقد الحرية و المسؤولية اسمه في القرءان عبد مملوك وهو توصيف ومثل لتوصيل فكرة وليس إقرار واقع

{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }النحل75

أما كلمة عبيد فهي جمع آخر لكلمة عبد بمعنى القهر ونفي الحرية عنهم ولم يتم استخدامها على الناس إلا في  يوم القيامة لفقدانهم الحرية وتقرير المصير

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }آل عمران182

{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ }فصلت46

أما في الدنيا فالناس يظلمون أنفسهم وبعضهم

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }التوبة70

  1. مفهوم “ملك اليمين” في القرآن

يجب التمييز بين المفهوم القرآني لـ “ملك اليمين” والفهم التقليدي له:

  • “ملك اليمين” لا يعني امتلاك الأشخاص جسديًا، بل يشير إلى علاقة تبعية اقتصادية، حيث يكون الشخص في خدمة جهة أقوى اقتصاديًا مقابل أجر، وهو ما يشبه العمالة والوظائف الحديثة.
  • لا توجد في القرآن آية تبيح بيع وشراء الإنسان، بل إن تحرير “ملك اليمين” كان من التشريعات التي تؤدي إلى إنهاء هذه الظاهرة تدريجيً، وللعلم لا يوجد في القرءان كله كلمة الرق مستخدمة ولا سبي النساء.

خاتمة

إن القرآن لم يستخدم مصطلح “الحرية” حرفياً لأنه تعامل مع الحرية كأمر مفروغ منه بداهة، فهي الأساس الذي يقوم عليه التكليف الإلهي. وبالمثل، لم يذكر تحريم العبودية بصيغة مباشرة، لأنها تتنافى مع القيم القرآنية الجوهرية كالعدل، والتكريم، والمسؤولية. كما أن مفهوم “العبادة” لا يدل على القهر والإذلال، بل على العلاقة الاختيارية بين الإنسان وربه. وبالتالي، فإن الإسلام لم يقرَّ العبودية مطلقًا ، بل حرمها ، وشرع تشريعات  تتضمن في طياتها تجفيف هذا الظلم والعدوان من خلال مفهوم العتق والكفارات، وجعل الحرية هي الأصل في الوجود الإنساني.