تَنقيط الحروف في المخطوطات القرآنية بين التطور التاريخي والاتفاق المجتمعي
     يُثار جدلٌ حول طبيعة الرسم العُثماني (طريقة كتابة حروف المصحف) وتنقيطها: هل هما اصطلاح بشري توافق عليه الصحابة والمجتمع الإسلامي المبكر، أم أنهما جزء من الوحي؟ تهدف هذه الدراسة إلى تحليل نشأة الرسم العُثماني والتنقيط بعيداً عن لغة التوقيفية (الربانية)، مع التركيز على كونهما نتاجاً لاجتهاد بشري توافقي، مدعومين بالأدلة التاريخية والمخطوطات.

أولاً: الرسم العُثماني: اصطلاح توافقي لا وحي في الشكل

  1. الرسم كاتفاقية كتابية:
  • اتفق الصحابة في عهد عثمان بن عفان على كتابة المصاحف بخطٍّ مُجرد من النقاط، مع احتفاظه بخصائص مميزة (كحذف الألف في كلمة “ملك”).
  • لم يُنقل عن النبي توجيهٌ بخصوص شكل الحروف، مما يدل على أن الرسم كان اتفاقاً عملياً لجمع القرآن وحفظه، وليس وحياً في طريقة الكتابة (ابن تيمية، الفتاوى، ج12، ص101).
  1. الدليل التاريخي من المخطوطات:
  • المخطوطات المبكرة (كمصحف صنعاء 1) تظهر اختلافات طفيفة في الرسم بين المصاحف، كزيادة الياء أو حذفها، مما يؤكد مرونة الاتفاق وعدم قدسية الشكل الحرفي (Déroche, 1992).

ثانياً: تنقيط الحروف: تطور تقني لضرورة عملية

  1. المرحلة الأولى: غياب التنقيط في المصاحف العُثمانية
  • خَلَت المخطوطات العُثمانية من النقاط، كما تُظهر مخطوطات القرن الأول الهجري، مما يؤكد أن التنقيط لم يكن جزءاً من الاتفاق الأصلي.
  1. ظهور التنقيط كحلٍّ لمشكلة الالتباس:
  • مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية واختلاط العرب بالعجم، ظهرت الحاجة إلى تمييز الحروف المتشابهة (كالباء والتاء) لتوحيد القراءة.
  • نسب المؤرخون ابتكار التنقيط إلى جهود فردية في العصر الأموي (كالحجاج بن يوسف)، ثم تطويره في العصر العباسي (Al-Azami, 2003).
  1. اختلاف أنظمة التنقيط دليل على بشريته:
  • اختلفت طرق التنقيط بين المدرستين الكوفية والبصرية (كالاختلاف في نقط الفاء والقاف)، مما ينفي فكرة الوحي أو التوقيف، ويثبت كونه اصطلاحاً متطوراً (السيوطي، الإتقان، ج2، ص117).

ثالثاً: لماذا يُخلط بين الرسم العُثماني والوحي؟ تحليل الإشكالية

  1. الالتباس بين حفظ المضمون وشكل الكتابة:
  • وعد الله بحفظ القرآن (الحجر: 9) يتعلق بالمضمون واللفظ، لا بشكل الحروف المكتوبة، فالاتفاق على الرسم كان أداةً عمليةً لتحقيق الحفظ، وليس جزءاً من الوحي.
  1. تقديس شكل المصحف تاريخياً:
  • تحوَّل الرسم العُثماني إلى رمزٍ للهوية الإسلامية، فتعززت فكرة قدسيته، رغم أن الصحابة أنفسهم اختلفوا في كتابة بعض الكلمات (كتفاوت رسم “الصراط” و”السراط”) (الزركشي، البرهان، ج1، ص378).
  1. الفصل بين مستويين:
  • المستوى النصي (الوحي): ألفاظ القرآن الموحى بها.
  • المستوى الشكلي (الاصطلاح ) :طريقة كتابة الحروف وتنقيطها، وهي اجتهادات بشرية قابلة للتطوير.

رابعاً: الرسم والتنقيط في الميزان العلمي المعاصر

  1. تحليل المخطوطات وتفنيد القداسة الشكلية:
  • كشفت دراسات مخطوطة صنعاء أن بعض النقاط وُضعت بمدادٍ مختلف عن مداد النص الأصلي، مما يؤكد إضافتها لاحقاً (Sadeghi & Goudarzi, 2012).
  • تظهر مخطوطات القرن الثاني الهجري (كمصحف كوفلر) محاولات مبكرة للتنقيط لم تُعمم إلا في القرن الثالث، مما يدحض فكرة الربانية (Schuler, 2010).
  1. إعادة تعريف الرسم العُثماني:
  • الرسم العُثماني اتفاقية كتابية فريدة، وليست مقدسة بذاتها، ويمكن تفسير خصوصياته (كحذف الألف) بأنها حلول عملية لاحتواء القراءات السبع، لا أكثر (الأعظمي، مناهل العرفان، ج1، ص256).

الخاتمة:

الرسم العُثماني وتنقيط الحروف نتاجٌ لاجتهاد بشري توافقي، هدف إلى حفظ القرآن وتيسير قراءته، وليسا جزءاً من الوحي. ولا ينفي هذا قيمتهما التاريخية أو شرعيتهما، لكن الفصل بين “الوحي النصي” و”الاصطلاح الشكلي” ضروري لفهم تطور الكتابة القرآنية دون إسقاطات مبالغ في قدسيتها.

المراجع:

  • ابن تيمية، أحمد. (1995). مجموع الفتاوى. دار الوفاء.
  • السيوطي، جلال الدين. (2006). الإتقان في علوم القرآن. دار الحديث.
  • الزركشي، بدر الدين. (1994). البرهان في علوم القرآن. دار المعرفة.
  • Déroche, F. (1992). The Abbasid Tradition: Qur’ans of the 8th to 10th Centuries. Nour Foundation.
  • الأعظمي، محمد. (2001). مناهل العرفان في علوم القرآن. دار الكتب العلمية.
  • Sadeghi, B. & Goudarzi, M. (2012). “Ṣan‘ā’ 1 and the Origins of the Qur’ān.” Der Islam.
  • Schuler, G. (2010). The Arabic Script: Its Development and Variations. Oxford University Press.