نقاش سؤال هل القرآن وحي من الله؟

يستند نقاش هذا السؤال إلى احتمالين لا ثالث لهم:

  1. أن يكون القرآن نتاج تأليف بشري،
  2. أو أنه وحي إلهي.

ويُستدل على ذلك بعد أن نقر بأن وجود الله كخالق ومدبر هو مسألة فطرية  منطقية لا يحتاج الإنسان إلى برهان لثبوته وبداهته، ولا يوجد مانع منطقي من تواصل الخالق مع خلقه . إن القرآن نزل للتفكر والتدبر، وهو خطاب شامل مُنسَّق من حيث الأسلوب والرسالة، يتيح لكل إنسان، بصرف النظر عن مستواه المعرفي، أن يستخلص منه الحقائق التي تتوافق مع واقع حياته.

  1. التفريق بين التصديق والإيمان

أ. التصديق بوجود الله كخالق ومدبر

  • حقيقة فطرية:
    إن الإنسان، بطبيعته، يدرك بأن لكل فعل فاعل، وهذا الإدراك يجعل فكرة وجود خالق مُدبّر أمرًا بديهيًا لا يُستدعي برهانًا إضافيً مع وجودها.
  • المعايير الأخلاقية الفطرية:
    القيم الأخلاقية مثل الصدق والأمانة والعدل متأصلة في النفس الإنسانية، ولا يحتاج الإنسان إلى إثباتها عقليًا؛ فهي تُعتبر من سمات الطبيعة الاجتماعية للإنسان.

ب. الإيمان كموقف أخلاقي

الإيمان كالتزام سلوكي:
يأتي الإيمان بعد التصديق، فهو يشمل إتباع نظام أخلاقي واجتماعي قائم على قيم سامية، ولا يُمكن اختزاله في مجرد إقرار فكري.

  • المسؤولية الفردية والجماعية:
    الإيمان الحقيقي يدعو الفرد إلى تفعيل قيم العدل والصدق في حياته، ما يؤسس لتواصل بنّاء مع الآخرين ويُنظم العلاقات الاجتماعية بطريقة ترضي العقل والضمير.
  1. طبيعة القرآن ومنهجيته

أ. آيات للتفكر والتدبر

  • خطاب متكامل:
    القرآن ليس نصًا أدبيًا يتفاخر بقدرات لسانية بحتة، بل هو آيات جاءت لتكون مادة للتفكر والتدبر، وتُعرض بأسلوب يتناسب مع مختلف مستويات الإدراك البشري.
  • تنظيم لساني دقيق:
    يتميز النص القرآني بأنه نزل بلسان عربي مبين بتناسقه الداخلي وترتيب جُمله بطريقة تُتيح للمتلقي استيعاب معانيه واستخلاص الدروس منه دون الحاجة إلى تفسيرات معقدة، وهو منسجم مه محل خطابه بصورة منطقية وعلمية.

ب. تحدي القرآن لمن ينكر مصدره

  • التحدي الصريح:
    يُوجه القرآن تحديًا لكل من يدعي أن نصه من تأليف البشر بأن يأتي بمثله وفق مواصفات وشروط دقيقة وردت في نصه، مما يجعل هذا التحدي بمثابة برهان عقلي قائم على وحدة الأسلوب والثبات في المعاني.
  • معايير النص:
    يشمل هذا التحدي التناسق اللساني، والاتساق في الأفكار، والقدرة على شمول مختلف جوانب الحياة الإنسانية من الأخلاق والتشريع إلى العلاقات الاجتماعية والعلمية، وأن يكون بلسان عربي مبين يستمر في صلاحيته عبر الزمان دون أن يطرأ عليه أي تعديل أو ظهور خطا في خطابه يتناقض مع الواقع.
  1. المضمون التشريعي والأخلاقي والاجتماعي للقرآن

أ. تنظيم العلاقات الإنسانية والأخلاقية

  • ضبط الحقوق والواجبات:
    يتضمن القرآن أحكامًا شرعية تنظم العلاقات بين الأفراد، فمثلاً حرّم ما لا يتفق مع العقل والخلق مثل نكاح المحارم واستغلال حقوق الآخرين.
  • دعوة للعدالة والمشاركة:
    يحث النص على إقامة علاقات قائمة على العدالة والصدق، ويضع معايير واضحة تضمن حماية الحقوق الفردية والجماعية.

ب. التكامل الشامل للنظام القرآني

  • رسالة شاملة:
    القرآن خطاب عالمي يستوعب كافة جوانب الحياة؛ فهو ليس مجرد كتاب ديني بل هو نظام تشريعي وأخلاقي يواكب تطور المجتمعات دون أن يفقد وحدته.
  • إكمال الدين وتطور الوعي:
    جاء القرآن في مرحلة نضج الوعي الإنساني واكتمال النظام اللساني، كما اكتملت الأعداد بنظامها الثابت، ما يُبرز قدرته على تلبية حاجات الإنسان عبر العصور.
  1. البراهين المنطقية لدلالة مصدر القرآن

أ. الاتساق الداخلي والثبات الزمني

  • وحدة الأسلوب والمعاني:
    على الرغم من نزوله على مدى ثلاثة وعشرين عامًا في ظروف اجتماعية متنوعة، حافظ القرآن على تناسقه الداخلي واستمرارية رسالته دون تغيير يُذكر، مما يُشير إلى مصدر خارجي غير متأثر بالتقلبات البشرية.
  • عدم وجود تناقضات:
    إن تماسك النص وعدم تعرضه لتحريف أو تغيير على مر العصور دليلٌ قوي على أنه ليس من تأليف بشر محدود القدرات.

ب. التواصل بين الخالق وخلقه

  • إمكانية الاتصال الإلهي:
    إن فكرة أن الله يتواصل مع خلقه عبر الوحي تُعد مسألة منطقية لا تخالف العقل، بل هي أساسية في العديد من الأنظمة الفكرية والدينية، إذ يوجه الخالق مخلوقاته نحو الخير والعدل.
  • رسالة هادفة وشاملة:
    إن النص القرآني يقدم نظامًا قيمًا يشمل مختلف نواحي الحياة ويُنظم العلاقات الاجتماعية بطريقة ترضي العقل، ما يدل على أن محتواه لم يأتِ نتيجة خيال بشري عابر.

ج. قائمة من الأسئلة المحورية التي تُحفز البحث والتفكر

يتضمن القرآن مجموعة من الأسئلة التي تُوجه القارئ نحو استنباط الحقائق، منها:

  1. هل يدعو القرآن إلى الخضوع والعبودية لإنسان مثلنا؟
  2. هل يُروج للظلم والاستبداد أم للعدل والمشاركة؟
  3. هل يشجع على تلبية الاحتياجات النفسية والجسدية بشكل متوازن؟
  4. هل يحمل توجيهًا عرقيًا أو طائفيًا؟
  5. هل يُحقق التوازن في شؤون البيئة والمجتمع؟
  6. هل يعد بحياة مستقرة في الدنيا والآخرة؟
  7. هل يساهم في إحلال الأمن والسلام والسعادة في المجتمع؟
  8. هل يجيب على الأسئلة الوجودية الكبرى (كيف، لماذا، أين) بصورة علمية وعقلية تتوافق مع الفطرة؟
  9. هل يُطابق أخباره أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل؟
  10. هل يبقى محتواه متوافقًا مع التطورات العلمية مع مرور الزمن؟
  11. هل يحقق مصلحة الفرد والمجتمع؟
  12. هل ثبت عدم تناقضه علمياً وواقعياً عبر التاريخ؟
  13. هل استطاع أحد أن يأتي بمثله رغم التحديات؟
  14. هل خالٍ من التحريف أو التلاعب منذ نزوله وحتى اليوم؟
  15. هل يسمح بطاعة أحد خلاف الحق والعلم؟
  16. هل يتسق مع الكتب السماوية السابقة؟
  17. هل يمكن نسبته إلى ظواهر نفسية مثل الهلوسة أو الاضطراب؟
  18. هل يُنسب للنبي محمد نفسه أو لجهة بشرية؟
  19. هل حافظ على وحدة أسلوبه وقوة معانيه على مدى نزوله الطويل؟
  20. هل يُجيز المعاملات التي تنتهك المحرمات كنكاح المحارم أو ارتكاب الظلم؟

إيجاد الإجابات على هذه الأسئلة يُرسي الحكم العقلي على أن النظام الذي يتضمنه القرآن يقتضي مصدرية خارج حدود التأليف البشري.

  1. دعوة للتفاعل الذاتي والتأمل الجماعي
  • تحرير العلاقة مع النص:
    يُحث القرآن الشباب وجميع الباحثين على التفاعل المباشر مع النص دون وساطة، معتمدين على العقل والتفكير النقدي لاستنباط الحقائق.
  • التمكين الفردي والمجتمعي:
    إن كل فرد ومجتمع مطالبين بفهم الرسالة بعمق، لأن النص مُصمم ليواكب مختلف الظروف والبيئات، ويُتيح مرونة في التطبيق دون أن يفقد معانيه الثابتة.

الخاتمة

يتبين من خلال الدراسة المنطقية والفلسفية أن:

  • القرآن ليس مجرد نص أدبي أو شعري، بل هو منظومة تشريعية وأخلاقية واجتماعية متكاملة تُوجه الإنسان نحو نظام حياة قائم على العدل والصدق والاحترام المتبادل.
  • التحدي الصريح الموجه لمن ينكر مصدره، والذي يقتضي إتيان نصّ مماثل وفق معايير دقيقة، يُعد برهانًا عقليًا قائمًا على وحدة الأسلوب والثبات الزمني.
  • إن التصديق بوجود الله كخالق ومدبر هو مسألة فطرية منطقية، بينما الإيمان به هو موقف أخلاقي يتجاوز حدود العقل الفردي، مما يجعل دراسة مصدرية القرآن نتيجة حتمية تُؤيد احتمالًا واحدًا: أن النص وحيٌ من عند الله.

وبذلك تُظهر الأدلة العقلية واللسانية والاجتماعية أن النظام الذي يتضمنه القرآن يتجاوز قدرات التأليف البشري المحدودة، مما يدعم الخيار المنطقي بأن يكون القرآن رسالة من عند الله، موجهة للإنسان لتفكيره وتدبره، دون اللجوء إلى وسائل خارجية لإثبات ذلك.

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }النساء82

 

وأصاب الشاعر عندما قال:

كم من عائب قولاً صواباً……..وآفته من الفهم السقيم