الأكل من البيوت

   {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون }النور61

تعتبر الآية الكريمة جزءًا من التشريعات التي وضعتها الشريعة الإسلامية لتنظيم العلاقات الاجتماعية فيما يتعلق بالموارد المشتركة بين الأفراد في إطار الأسرة والمجتمع. في هذا السياق، سنتناول تحليل مفردات الآية بشكل منطقي مستندين إلى الدلالات اللسانية.

  1. الفرق بين “البيت” و”المنزل”

الفرق بين “البيت” و”المنزل” يرتبط بالمعنى اللساني والنفسي والثقافي لكل منهما:

  • البيت: في اللسان  العربي، يشير إلى المكان الذي يُسكن فيه الإنسان، ويمتاز بدلالة تتعلق بالاستقرار، الألفة، والروابط الاجتماعية العاطفية. من الناحية المعنوية، يمكن أن يدل على جماعة أو نظام اجتماعي يشترك فيه الأفراد على مبدأ أو هدف مشترك، مثل “بيت الإسلام” أو “بيت المسلمين”.
  • المنزل: يشير إلى مكان السكن المادي الذي يكون مؤقتًا، و لا يحمل نفس المعنى العاطفي أو الاجتماعي الذي يحمله “البيت”. هو ببساطة مكان الإقامة دون دلالة خاصة بالعلاقات أو الاستقرار العاطفي.

في الآية الكريمة، استخدام كلمة “بيوتكم” بدلاً من “منازلكم” يشير إلى أن الحديث يتجاوز مجرد مكان الإقامة المادي ليشمل العلاقات الاجتماعية والعاطفية داخل المكان، حيث يُفترض أن تكون العلاقة بين الأفراد في “البيت” أكثر تشاركًا وتواصلًا، مما يتيح لهم التصرف بحرية في الموارد المشتركة مثل الطعام.

  1. الأكل: المادي والمعنوي
  • الأكل المادي: يشير إلى تناول الطعام والشراب بشكل ملموس، وهو المعنى الأكثر شيوعًا في الاستخدام اليومي.
  • الأكل المعنوي: يتعدى تناول الطعام ليشمل الاستفادة من شيء مادي دون حق، كما في قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا” (النساء: 10). هذه المعنى يشير إلى استهلاك موارد الآخرين بطرق غير مشروعة أو غير عادلة.

في الآية الكريمة، “الأكل” لا يقف عند مجرد تناول الطعام بل يتعدى ذلك ليشمل التصرف في موارد “البيت” (الطعام والمال) بشكل تشاركي ضمن نظام اجتماعي، مما يبرهن أن الآية تتناول مسألة حقوق الأفراد في التصرف في موارد البيت وليس مجرد رفع حرج عن الأكل من “البيت” كما قد يظن البعض.

  1. هل الآية تشرّع لما هو تحصيل حاصل؟

الآية الكريمة لا تقتصر على مجرد تأكيد لما هو بديهي أو متعارف عليه. التشريع القرآني غالبًا ما يهدف إلى تنظيم العلاقات بين الأفراد وتحديد الحقوق والواجبات في المجتمع. في هذه الآية:

  • إزالة حرج: يمكن أن يكون هناك تصور خاطئ أو تردد بشأن التصرف في الموارد المشتركة داخل “البيت” (مثل استخدام الأدوات والموارد)، وهذا التشريع يزيل هذا الحرج، لأن في البيت الواحد يوجد عناصر وأفراد آخرين لهم حاجياتهم وأدواتهم  ومواردهم.ولذلك أتت جملة(وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ…) بمعنى أن تستخدموا أدوات أو موارد غيركم ممن معكم طالما أنتم في بيت واحد.
  • إقرار مفهوم اجتماعي: الآية تشير إلى ضرورة تنظيم الموارد المشتركة ضمن الإطار الاجتماعي، وهو ما يعكس مبدأ المشاركة في الحياة اليومية ضمن الأسرة أو المجتمع.
  • تصحيح مفاهيم: قد يكون هناك فهم خاطئ بشأن حدود التصرف في موارد “البيت”، وهذه الآية تعمل على تصحيح هذا الفهم.

إذن، الآية لا تشرع لأمر بديهي بل تؤكد على مبدأ اجتماعي يتعلق بالحقوق والواجبات في استخدام موارد البيت.

  1. لماذا شملت الآية الأقارب والأصدقاء؟

إدراج “البيوت” المختلفة (آباء، أمهات، إخوة، أعمام، أصدقاء، وغيرها) ضمن نطاق التشريع يشير إلى أن النظام الاجتماعي في الإسلام لا يعتمد على التصرفات الفردية فقط، بل يعترف بالعلاقات الأسرية والاجتماعية. في هذا السياق:

  • مشاركة الموارد: الآية تشير إلى أن التصرف في الموارد (مثل الطعام والأدوات) يجب أن يكون مشتركًا بين الأفراد داخل “البيت”، أي بين أفراد الأسرة أو الأصدقاء المقربين.
  • الحقوق الاجتماعية: من خلال هذا التشريع، يتضح أن التصرف في موارد البيت ( الأدوات والطعام وغيره) يجب أن يتم وفقًا لحقوق اجتماعية معينة، مما يعزز من مفهوم التعاون والتشارك في المجتمع.

النتيجة:

الآية الكريمة هي تأكيد على أن التصرف في موارد “البيت” لا يعتبر شأنًا فرديًا، بل هو جزء من نظام اجتماعي يشمل حقوقًا وواجبات مشتركة بين الأفراد. استخدام “البيت” بدلاً من “المنزل” يعكس هذا المعنى الاجتماعي والعاطفي، حيث أن العلاقة بين الأفراد داخل “البيت” هي علاقة تشاركية. لذا، فإن الآية تعيد تحديد حدود التصرف في الموارد ضمن سياق اجتماعي متكامل.

القواعد المتفق عليها لتدبر النصوص القرآنية:

  1. التفسير السياقي: يجب دراسة الآية في سياقها العام وليس بمعزل عن النصوص الأخرى.
  2. الاستناد إلى الدلالات اللسانية: يجب أخذ المعاني اللسانية الدقيقة للكلمات بعين الاعتبار.
  3. التركيز على المفاهيم الاجتماعية: فهم النصوص يجب أن يشمل التحليل الاجتماعي، وخاصة في ما يتعلق بالعلاقات بين الأفراد.
  4. تحليل السياقات التشريعية: يجب أن يفهم النص في سياق التشريع الإسلامي العام، بما يشمل الحقوق والواجبات الفردية والاجتماعية.

من خلال هذه القواعد، نتمكن من تدبر النص بشكل منطقي ومنهجي، مع فهم أعمق لما يهدف إليه التشريع القرآني في تنظيم العلاقات الاجتماعية.