النص القرآني بين السمع والبصر (الصوت والخط)
يُقدّم القرآن الكريم في نصوصه الذاتية على أنه ” من عند الله” المُنزل على النبي محمد ﷺ بواسطة وحي يُتلقَّى في القلب وبلسان عربي مبين. ومن هنا تنبع الإشكالية الأساسية في تناول العلاقة بين التوقيف (أي التوافق والترسيم الكتابي) والوحي (الاستقبال الإلهي للقرآن)؛ إذ إن مفهوم الرسم في التراث الإسلامي ليس وحيًا إلهيًا بل هو حالة توافقية اصطلاحية نُظِّمت لتوحيد التلاوة، بينما يظل التلقي القرآني أساسه السماع وليس البصر. يستعرض هذا البحث الأدلة القرآنية والتاريخية واللسانية التي تثبت أن النص القرآني ذاته نفى نزوله مخطوطاً في قرطاس، وأن النبي ﷺ لم يكن صاحب مهارة في الخط ولا تلاوته، كما تؤكد الآيات الكريمة على ضرورة الاستماع والتدبر اللفظي دون التركيز على الشكل الخطي.
ولنقاش هذا الموضوع لابد من ترتيل النصوص والبراهين و الأدلة المختلفة وتشكيل منظومة تفيد اليقين تكون حاكمة على دراسة النصوص الأخرى الجزئية التي يمكن في أحد احتمالات الفهم اللساني ظاهرياً أن تفيد في أن النص القرءاني نزل مخطوطًا أو أن النبي يتلو من مخطوط، مع استبعاد التصورات والرغبات والاقتراحات والإدعاء بلزوم أن تكون الفكرة بهذا المنحى بناء على حالة مزاجية، أو عرض أسئلة لايوجد عليها جواب قطعي، واستخدام نفي العلم بالجواب برهان لإثبات صحة فكرة، فكل هذه ليست براهينًا ولا أدلة ولا تناقش لأنها لا تنقض المنظومة، والظن لا يرفع اليقين.
المنظومة في موضوعنا تقوم على بعض الأفكار المبرهن عليها، وهي:
الفكرة الأولى: نفي نزول القرآن في قرطاس
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }الأنعام7
تشير هذه الآية إلى أن القرآن لم ينزل كتابًا ماديًا يُكتب في قرطاس أو أي مادة ملموسة، بل هو وحي نزل بلسان عربي على قلب النبي؛ إذ أن اللمس لا يمكن أن يكون إلا صفة لوحيَّة تُعطيه طبيعة مادية، مما ينفي أي تصور بأن النص الإلهي قد تبلور في هيئة كتاب ملموس منذ نزوله.
الفكرة الثانية: اللسان نظام صوتي منطقي وليس خطأً.
“بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ” (الشعراء: 195)
تُبرز الآيات الدالة على أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، إلى النظام الصوتي ، لأن كلمة لسان لا يصح إطلاقها على الخط
“اللسان” بمعناه اللساني الدارج لدى العرب، أي النظام النطقي والشفهي للكلام، وليس الخط المكتوب.
الفكرة الثالثة: نزل القرءان على قلب النبي
“نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ” (الشعراء: 193-194)
“قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ” (البقرة: 97)
تشير النصوص إلى أن عملية التلقي الإلهي كانت داخلية تُستقبل عبر القلب والسمع، وليس عن طريق الرؤية البصرية للمخطوطات.
الفكرة الرابعة: تعلق تدبر القرءان والتفاعل معه بالسمع .
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }فصلت26
{يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }الجاثية8
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }لقمان7
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }التوبة6
{وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }النحل65
كل النصوص تتعلق بوظيفة السمع للقرءان وآياته، وليس بالبصر، وهذا يثبت أن الأصل والحجة هو التلاوة الصوتية فهي محل الدراسة والتدبر وليس الخط ، ويوجد نقطة مهمة ينبغي التطرق لها وهي كيف الأعمى يتفاعل مع النص القرءاني إن كان لا يستطيع رؤية الخط؟!
الفكرة الخامسة: نفى القرءان عن النبي مهارة الخط أو تلاوته
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }العنكبوت48
يُظهر القرآن أن النبي ﷺ لم يكن يعرف مهارة الخط أو تلاوته قبل نزول الوحي، والأصل بقاء ما كان على ما كان عليه حتى يثبت العكس ويرفعه، ونهاية النص ” إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ” تثبت أن ذلك النفي مستمر، لأنه لو صار يخط ويتلو المخطوط بعد نزول القرءان لرجعت الشبهة للظهور وصار مبرر لاتهام النبي بأنه ينقل ذلك من غيره وينسبه لنفسه.
الفكرة السادسة: الروايات التاريخية تنفي عن النبي مهارة الخط وتلاوته
ثبت في مجمل الروايات التاريخية أن النبي فعلاً كان لا يخط ولا يتلو المخطوط قبل نزول القرءان واستمر بعده كذلك ، وهذا يوافق مفهوم النص القرءاني.
وللعلم ينبغي أن نعلم أن النبي كان إماماً وعالماً و قارئا وكاتبا وتالياً ومؤلفاً ولكن لا يحسن الخط ولا تلاوته، مثله كمثل العلماء الذي ولدوا عمياناً فهم يكتبون ويقرؤون ويؤلفون ويتلون من قلبهم إلقاء و إملاء دون مهارة الخط أو تلاوته مثل أبو العلاء المعري والدكتور طه حسين.
ومن هذا الوجه نفهم كيف توجه النص القرءاني للنبي بأمر اقرأ،{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }العلق1
ولذلك ينبغي أن نفعل قاعدة: “إذا اختلف المبنى اختلف المعنى”
الفكرة السابعة: كان النبي يتلو على الناس القرءان صوتيًا ولا يوزع منشورات وصحف.
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }الأنعام151
{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ }النمل92
الفكرة الثامنة: مفهوم كلمة “كتب وكتاب” لا تعني بالضرورة الخط
كلمة “كتب” تدل على ضغط ودفع منتهي بجمع وضم مستقر، ويمكن أن يكون ذلك الفعل في قرطاس أو أي وسيلة مادية مثل: ألواح النبي موسى، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ }الأعراف145.
ويمكن أن يكون معنوياً في القلب والنفس ، مثل : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ }الأنعام54، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }البقرة183، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ }البقرة216
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }الروم56
وهذا يدل على أن ذكر كلمة “كتاب” مجرد ة لا تفيد أنه مخطوط وفي قرطاس بل لابد من قرينة وهي السياق أو نص آخر يوجه المعنى، وفي موضوعنا القرينة هي المنظومة التي تفيد أن كتاب الله لم ينزل في قرطاس، وبالتالي فدلالة كلمة ” الكتاب” تتعلق بمجموعة من الأمور والمعلومات المنضمة لبعضها ومجموعة وفق نظام معين في النفس والعلم ، ووفق المنظومة نفهم نص : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }البقرة2، ونبتعد عن الظاهرية والدلالة المادية والشائعة بين الناس.
الفكرة التاسعة: الخط ظهر لاحقًا بعد اللسان ، وخضع للتطور فهو منتج بشري
على الرغم من قدسية الخطاب القرآني، فإن “الرسم” أو الخط المصحفي هو نتاج حالة توافقية اصطلاحية:
- ظاهرة تاريخية وثقافية:
اعتمد العلماء والصحابة على رسم معياري في العهد العثماني لتوحيد تلاوة القرآن، مما ساعد في إنهاء النزاعات القرآنية بين الأمصار الإسلامية، كما ذكر الطبري في تاريخه. - أدلة أثرية وتطور الخط العربي:
تُظهر مخطوطات صنعاء ونقوش قبة الصخرة اختلافات في الرسم عن المصحف العثماني، ما يؤكد أن أدوات الكتابة والخط العربي خضعت لتطور تاريخي وثقافي، ولم تكن مقدسة بذاتها.
الفكرة العاشرة: لو نزل القرءان خطاً للزم حفظه منذ عهد النبي بجوار التلاوة الصوتية
من المعلوم أنه لا يوجد نسخة نبوية محفوظة في الأمة ، ولم يكن النبي يُعلم الناسخ طريقة الخط وإلا لقام هو بنفسه بالخط، وعندما قام أبو بكر بجمع المصحف في عهده لم يعتمد على نسخة مخطوطة ونقل عنها، وإنما اعتمد على الحفظ للنص في الأمة ، وكذلك عثمان فقد نسخ عن نسخة أبو بكر
وغياب النسخة النبوية التي يُدَّعى أنها وحي ينقض الوحي والحفظ
الفكرة أحد عشر: التدبر والدراسة لمعنى كلمة اختلف رسمها في المصحف، مثل: ” رحمة و، رحمت” أتى من خلال السياق والدراسة وليس من رسم الكلمة، وهذا الاختلاف في الرسم لا يصح الاعتماد عليه في نقض المنظومة، فهو حالة تتعلق بتطور الخط والسائد حينئذ والذي له مبرره.
الفكرة الثاني عشر: يوجد اختلاف بين التلاوة للنص القرءاني المتتابعة في الأمة وبين الخط المصحفي، فمن المعلوم أن التلاوة هي التي تحكم الخط، ولا نتلو الخط كما هو مرسوم بل نتعامل معه وفق التلاوة المحفوظة ، مثل : تلاوة الأحرف المقطعة في بدء السور في الخط موصولين “كهيعص” ولو تعاملنا مع الخط لتلوناها كلمة واحدة، ولكن التلاوة الصوتية كونها هي الحجة و الإمام والمهيمنة على الخط نتلو كل مقطع صوتي وحده، وكذلك لفظ صوت الهمزات والألف الخنجرية رغم عدم وجودها في الخط قديماً.
الخاتمة
يتضح من خلال التحليل القرآني والتاريخي واللساني أن القرآن الكريم ظاهرة سماعية في جوهرها؛ إذ أن نزوله كان تجربة روحية تُتلَقّى في القلب وبلسان عربي مبين بمعنى نظام صوتي، وليس كخط في قرطاس. إن النص القرآني ينفي صراحة نزوله في هيئة كتاب ملموس، وينفي كذلك عن النبي ﷺ مهارة الخط وتلاوته، مؤكدًا أن الاستماع والتلاوة هما الطريقان الرئيسيان للتفاعل مع القرآن. ومن جهة أخرى، يُنظر إلى الرسم العثماني كظاهرة تاريخية نتيجة لتوافق اجتماعي وسياسي، وليس كجزء من الوحي الإلهي. بالتالي، ينبغي الفصل بين قداسة اللفظ وبين الشكل الخطي، حيث أن قداسة القرآن تكمن في رسالته وسماعه وليس في الرسم الذي خضع لتطور وتوافق بشري.
اضف تعليقا