التجليات الإدراكية وتشكُّل المعنى
تستعرض هذه الدراسة الآليات النفسية والفلسفية التي تحفز البشر على تفسير الظواهر العشوائية (مثل أشكال الغيوم، أو الصخور التي تشبه الوجوه، أو بقع القهوة التي تذكّر برموز دينية) على أنها “تجليات” ذات دلالات عقدية أو روحانية. كما تعمق في فهم كيف تُحوّل هذه التفسيرات إلى سلوكيات ملموسة في حياة الإنسان. تعتمد الدراسة على نظريات علم النفس الإدراكي والفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجيا) لفهم كيفية رؤية الإنسان للمعنى في الفوضى، وأسباب تصميم عقله للأوهام التي تعزز معتقداته المسبقة.
- بين العشوائية والمعنى
الإنسان كائنٌ يبحث عن الأنماط (Pattern-Seeking Animal)، كما وصفه كارل ساغان، وهذه المقولة تبرز الإشكالية الجوهرية في فهم التجليات الإدراكية. لماذا يرى الإنسان وجوهًا في السحاب أو يسمع أصواتًا في الضوضاء أو يعتقد أن الحجر يحمل رسالة إلهية؟ الفرضية المركزية في هذا التحليل تقول إن التجليات ليست ظواهر غيبية أو خارقة، بل هي نتيجة تفاعل بين:
- آلية عصبية-إدراكية، حيث يميل الدماغ البشري إلى تمييز الأنماط.
- حاجة وجودية لتعزيز التصورات العقدية والدينية الخاصة بالفرد.
- الآليات النفسية: من “الباريدوليا” إلى صنع الأساطير
أ. الباريدوليا (Pareidolia)
الباريدوليا هي ظاهرة إدراكية تجعل الإنسان يرى أشكالًا مألوفة، مثل الوجوه أو الحيوانات أو الرموز، في محفزات عشوائية.
- الأساس العصبي لهذه الظاهرة يكمن في تفعيل مناطق التعرف على الوجوه في الدماغ (مثل التلفيف المغزلي)، وهو ما يُعد آلية تطورية للبقاء، تساعد في التعرف على الوجوه في ظروف غير واضحة كالغموض أو الظلام.
- التفسير النفسي: يعتبر الدماغ البشري أن هذه الأنماط توفر دلالات منطقية تساعد على تحديد البيئة بشكل أكثر استقرارًا.
ب. الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias)
الانحياز التأكيدي هو الظاهرة النفسية التي من خلالها يفسر الفرد الظواهر الغامضة بما يتماشى مع معتقداته المسبقة.
- إذا كان الشخص يبحث عن “علامات إلهية”، فإنه سيرى في أي شكل غريب تأكيدًا لعقيدته. على سبيل المثال، قد يرى شخص ما “اسم الله” في جذع شجرة، ويتجاهل في الوقت ذاته آلاف الأشكال الأخرى التي لا تحمل أي دلالات دينية.
ج. نظرية الإسقاط النفسي (Psychological Projection)
في إطار هذا المفهوم، يرى كارل يونغ أن الإنسان يُسقط محتويات اللاوعي (مثل الأفكار والمخاوف الرمزية) على العالم الخارجي.
- مثال على ذلك: إذا كان الشخص يعتقد أن الصليب المقدس أو وجه المسيح يظهر في الصخور، فهذا ليس سوى انعكاس للرموز المكبوتة في العقل الجمعي.
- الأبعاد الفلسفية: صنع المعنى في عالم عبثي
أ. الفينومينولوجيا: التجربة الذاتية كواقع مطلق
بحسب موريس ميرلوبونتي، فإن الإدراك ليس مجرد انعكاس للعالم الخارجي، بل هو تأويل نشط منه.
- التجليات تمثل محاولة الإنسان تحويل “الشيء في ذاته” (الظواهر العشوائية) إلى “شيء لذاته” (شيء مُحمل بالمعنى).
ب. الوجودية: الهروب من العبثية
في فلسفة ألبر كامو، يُنظر إلى الحياة على أنها لا تحمل أي معنى ثابت، لذلك يخلق الإنسان أساطير شخصية تساعده في التغلب على قلقه الوجودي.
- مثال على ذلك: رؤية وجه في الغيوم، إذ يشعر الفرد أن الكون “يراه” ويتواصل معه، مما يساعده على التغلب على مشاعر العزلة والعبث.
ج. فلسفة الدين: بين الوحي والتوهم
وفقًا لوليام جيمس في كتابه “تنوع التجربة الدينية”، فإن الإيمان الديني ينشأ من تجارب شخصية يتم التعبير عنها بلغة الرموز.
- على العكس، يرى لودفيغ فيورباخ أن التجليات هي إسقاط للذات الإنسانية على الكون، حيث يصنع الإنسان إلهًا على صورته.
- تحليل الحالات: كيف تتحول التخيلات إلى سلوكيات؟
الحالة الأولى: ظهور “القديسين” على جدران المباني
في عام 1994، ادعى العديد من المكسيكيين رؤية صورة العذراء ماري على جدار مترو أنفاق مكسيكو سيتي.
- الآلية: رؤية شكل غامض يُشبه الثوب الأزرق (باريدوليا).
- التفسير: ربط الشكل برمز ديني مألوف (العذراء ماري في الثقافة الكاثوليكية).
- السلوك: تكثيف الصلاة، تقديم النذور، وتحويل المكان إلى مزار ديني.
الحالة الثانية: “صخرة النبي” في السعودية
صخرة في منطقة نائية يُعتقد أن شكلها يشبه وجه النبي محمد.
- الآلية: تعرجات الصخور تُشبه الأنف والعينين (تنشيط التلفيف المغزلي).
- التفسير: ربط الشكل بالسرديات الدينية.
- السلوك: زيارة المكان للتبرك، محاولات منع السلطات للتجمعات خوفًا من “الشرك”.
- المخاطر: عندما تتحول التجليات إلى أوهام جماعية
الوهم الجمعي (Mass Delusion)
تحويل التخيلات الفردية إلى معتقدات جماعية قد يحدث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل انتشار صور “وجه المسيح” على الإنترنت.
- التأثيرات السلبية: قد يؤدي ذلك إلى إهمال الأسباب العقلانية أو الطبية، مثل تفسير مرض ما كـ”لعنة”، أو قد يتسبب في التطرف والتعصب، مما يؤدي إلى مواقف متطرفة وخطيرة (مثل العنف المرتبط بالظواهر الوهمية).
الخاتمة:
المعنى بين الحاجة والوهم
تُظهر التجليات أن الإنسان لا يتوقف عن البحث عن المعنى، حتى في الفوضى. رغم أن هذه الظواهر قد تساعد الإنسان على تحمّل غموض الوجود، فإن تحوّلها إلى معتقدات ثابتة قد يقود إلى الأوهام.
- يُعيدنا هذا إلى السؤال الفلسفي الأصيل: أين ينتهي التخيُّل ويبدأ الواقع؟
الجواب لا يكمن في إنكار هذه التخيلات، بل في إدراك أن “المعنى” ليس شيئًا مُعطًى خارجيًا، بل هو نشاط إنساني خالص.
التوصيات:
- تطوير برامج توعوية لتعليم التفريق بين التفسيرات الإدراكية والحقائق الموضوعية.
- دراسة دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز أوهام التجليات، مثل الخوارزميات التي تولد أنماطًا وهمية في الصور.
- البحث في كيفية توظيف هذه الظواهر في الفنون العلاجية (Art Therapy) لتفريغ الرموز المكبوتة.
اضف تعليقا