تسمية السور وترتيبها في المصحف وحي أم توافق واصطلاح
يُعد القرآن الكريم النص المركزي في الإسلام، وقد تم تدوينه وترتيبه في المصحف وفق ما استقر عليه المسلمون منذ عصر الصحابة. غير أن مسألة تسمية السور وترتيبها تثير تساؤلات حول مصدرها: هل هي وحيٌ من الله أم أنها نتيجة اجتهاد بشري من النبي ﷺ والصحابة؟ للإجابة عن هذا السؤال، يتطلب البحث تحليل المصادر التاريخية والنصوص القرآنية، مع دراسة شواهد الجمع والتدوين في العصور الأولى للإسلام.
أولًا: تسمية السور في القرآن والتاريخ الإسلامي
- غياب التسمية التوقيفية في النص القرآني
لم يرد في القرآن أي نص يُحدد أسماء السور، بل يُشار إليها بلفظ “سورة”، كما في قوله تعالى:
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (المنافقون: 1)، دون التصريح بأن هذا هو اسمها.
- تعدد أسماء بعض السور في المصادر الإسلامية
تظهر اختلافات في أسماء بعض السور في الروايات المبكرة، مما يدل على أن التسمية لم تكن موحدة منذ البداية:
- سورة الفاتحة عُرفت بعدة أسماء مثل “أم الكتاب” و”السبع المثاني”.
- سورة الإسراء سُمِّيت أيضًا “بني إسرائيل”.
- سورة غافر سُمِّيت “المؤمن” في بعض الروايات.
- سورة براءة سميت الكاشفة والفاضحة
هذا التعدد يشير إلى أن الأسماء لم تكن جزءًا من نص الوحي، بل كانت اجتهادية وفق معاني السور ومضامينها.
- ثبات التسمية لاحقًا في الجمع العثماني
مع توحيد المصحف في عهد الخليفة عثمان بن عفان، استقرّت الأسماء كما هي معروفة اليوم، مما يشير إلى عملية توحيد اصطلاحية تمت داخل المجتمع الإسلامي، وليس بناءً على نص توقيفي.
ثانيًا: ترتيب السور في المصحف
- غياب الدليل القاطع على الترتيب التوقيفي
لم يرد في القرآن أو الحديث ما يدل على أن ترتيب السور الحالي وحيٌ منزل، بخلاف ترتيب الآيات داخل السور، الذي ثبت بالتتابع عن النبي ﷺ.
- اختلاف ترتيب السور في المصاحف الأولى
عند مراجعة المصاحف التي كانت موجودة قبل الجمع العثماني، نجد أنها لم تتفق على ترتيب موحد:
- مصحف عبد الله بن مسعود كان مختلفًا في ترتيبه عن المصحف العثماني.
- مصحف أبي بن كعب اختلف أيضًا في مواضع بعض السور.
لو كان ترتيب السور توقيفيًا ووحيًا، لما وُجد هذا التفاوت بين الصحابة.
- العرضة الأخيرة: مراجعة الآيات لا ترتيب السور
جاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبي ﷺ عرض القرآن على جبريل مرتين في آخر سنة من حياته. غير أن هذه الرواية لم تتضمن ذكرًا لترتيب السور، بل تشير فقط إلى مراجعة الحفظ، مما يدل على أن العرضة الأخيرة لم تتضمن تثبيتًا لوحي ترتيب السور.
- الاجتهاد في ترتيب السور داخل المصحف
تشير الشواهد إلى أن ترتيب السور في المصحف العثماني تم بناءً على اجتهاد الصحابة، الذين اعتمدوا على ترتيب مقارب لما كان النبي ﷺ يقرأ به عادة، لكنه لم يكن توقيفيًا بالمعنى الحرفي.
- موقف العلماء من تسمية السور وترتيبها
لقد تناول العديد من علماء الإسلام مسألة ترتيب سور القرآن الكريم، وانقسمت آراؤهم بين كونه توقيفيًا (الوحي) أو اجتهاديًا (من اجتهاد النبي و الصحابة). فيما يلي بعض العلماء الذين ذهبوا إلى أن ترتيب السور كان اجتهادًا من النبي والصحابة، مع توثيق آرائهم:
- الإمام مالك بن أنس (ت. 179 هـ):
- يرى الإمام مالك أن ترتيب السور كان باجتهاد من الصحابة، مستدلًا باختلاف مصاحفهم في الترتيب قبل الجمع العثماني.
- القاضي أبو بكر الباقلاني (ت. 403 هـ):
- في كتابه “الانتصار للقرآن“, يشير الباقلاني إلى وجود اختلافات كبيرة في ترتيب السور بين مصاحف الصحابة، مما يدل على أن الترتيب كان اجتهاديًا وليس توقيفيًا.
- الإمام بدر الدين الزركشي (ت. 794 هـ):
- في كتابه “البرهان في علوم القرآن“, يذكر الزركشي أن العلماء اختلفوا في ترتيب السور، وأن القول بأن الترتيب اجتهادي هو رأي جمهور العلماء، ومنهم الإمام مالك والقاضي أبو بكر الباقلاني.
خاتمة
من خلال تحليل الشواهد التاريخية والنصوص المتوفرة، يتضح أن تسمية السور وترتيبها لم يكونا جزءًا من الوحي النصي المنزل، بل كانا نتاج توافق واجتهاد داخل المجتمع الإسلامي. الأسماء نشأت استنادًا إلى محتوى السور، وترتيبها تطور تدريجيًا حتى استقر مع الجمع العثماني. هذا الفهم يتوافق مع طبيعة نقل القرآن، حيث كان التركيز الأساسي على حفظ النص، بينما تطورت بعض الجوانب التنظيمية من خلال الاجتهاد البشري.
اضف تعليقا