التراث بين القطيعة والتفعيل

التراث: ذاكرة الأمة وجذورها المعرفية

يعدُّ التراث الذاكرة الحية للأمم، فهو سجلٌّ تاريخيٌّ يحمل في طياته تجارب الأجداد، وأفكارهم، وأنماط عيشهم، وهوية المجتمع التي تميزه عن غيره. الأمة التي تهمل تراثها تضع نفسها أمام قطيعة مع ماضيها، فتفقد استمراريتها التاريخية وتتحول إلى كيان مبتور لا جذور له، لا يستطيع فهم ماضيه، وبالتالي لا يستطيع بناء مستقبله بناءً متماسكًا.

التراث كمصدر معرفي وليس كمرجع علمي أو ديني

من الضروري التمييز بين التراث كمصدر للهوية والمعرفة، وبين اعتباره مرجعًا علميًا أو دينيًا. فالتراث ليس مصدرًا للحقائق العلمية أو الأحكام الدينية، لكنه يشكل رصيدًا ثقافيًا ومعرفيًا يمكن الاستفادة منه من خلال التفاعل النقدي، وليس عبر التقليد الأعمى. التعامل مع التراث يجب أن يكون وفق مبدأ “الأحسن والمناسب”، أي استلهام ما يناسب الواقع المعاصر دون الجمود على ما لم يعد صالحًا للعصر.

القطيعة المعرفية وأثرها على المجتمعات

إحدى أبرز الأمثلة على القطيعة المعرفية التي تؤدي إلى فصل المجتمع عن تراثه التاريخي هي تجربة تركيا في عهد مصطفى كمال أتاتورك، عندما قرر استبدال الأحرف العربية في الكتابة بالأحرف اللاتينية. هذا التغيير لم يكن مجرد تعديل في نظام الكتابة، بل كان قطيعة كاملة مع الإرث العثماني، حيث أصبح المجتمع التركي لاحقًا غير قادر على قراءة وفهم الكتب والمخطوطات القديمة المكتوبة بالأحرف العربية، مما أدى إلى فقدان حلقة الوصل بين الأجيال المختلفة.

إدراكًا لهذا الانقطاع، تعمل العديد من المؤسسات التركية اليوم على إعادة كتابة الكتب التراثية العثمانية بالحروف اللاتينية، حتى يتمكن المجتمع التركي الحديث من فهم تراثه والتواصل مع ماضيه الثقافي والمعرفي. هذه المحاولات تعكس وعيًا متزايدًا بأهمية التراث كمصدر هوية ومعرفة، لا يمكن التفريط به أو عزله عن السياق الحضاري للأمة.

الخلاصة

إن الحفاظ على التراث لا يعني تقديسه أو اتباعه بشكل أعمى، بل يتطلب وعيًا نقديًا يسمح بانتقاء ما هو مناسب للأزمنة المتغيرة، مع الحفاظ على الاتصال بالماضي لضمان الاستمرارية الثقافية. فالأمم التي تدرك قيمة تراثها وتتعامل معه بوعي ومرونة تستطيع بناء مستقبل متجذر في تاريخها، دون أن تكون رهينة له.