قَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ
الهدف من هذه الدراسة هو تحليل مفهوم ” هامات” و”الصَّرح” في القرآن الكريم باستخدام التحليل اللغوي المنطقي بعيدًا عن المعاجم والتراث والتفاسير التقليدية، مع تدبر دلالة الكلمة وفقًا للسياق القرآني.
دلالة كلمة “هامان”
كلمة “هامان” تحمل دلالة أعمق من مجرد اسم شخص في قصة فرعون. هي مأخوذة من الجذر هـ- م- ن، الذي يشير إلى الهيمنة والسيطرة. هامان يمثل رجل الدين أو الكاهن الذي يسيطر على الفكر و العقول في زمن فرعون. لذلك، كان هامان ليس مهندس بناء مادي، بل هو الشخصية التي تمتلك السلطة الفكرية، الهيمنة على الرأي العام، وتوجيهه نحو دحض دعوة موسى.
كذلك، جاء في الآية الحشر 23:
“هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ…”
كلمة “المهيمن” تعني الهيمنة المطلقة على الأمور، لا مجرد الشهادة كما قد يظن البعض. “المهيمن” هو الذي يسيطر على كل شيء، بما في ذلك الفكر والعقل، وفي هذا السياق، هامان كان يمثل الهيمنة الفكرية التي كانت تسعى إلى فرض الرؤية الفرعونية ضد دعوة موسى. وهذا يتوافق مع ما جاء في آية المائدة
“وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ…”
الكتاب هنا هو الذي يهيمن على جميع الكتب السابقة.
الآيات التي تذكر “الصَّرح”
- غافر: 36
“وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ”
- القصص: 38
“وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَٰهِ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ”
- النمل: 44
“قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”
التحليل اللساني المنطقي
الجذر الصوتي لكلمة “الصَّرح”
كلمة “الصَّرح” تتكون من الجذر الثلاثي ص- ر-ح، والذي يدل على حركة محددة مستمرة بتكرار منتهية بسعة ورحابة . هذه الدلالة الصوتية تشير إلى معنى الظهور أو الوضوح والتوسع، وهو ما ينعكس في المعنى المعرفي للكلمة.
- الصَّرح في “غافر” و “القصص” قد يشير ظاهراً إلى البناء العالي أو الهيكل الضخم الذي يُبنى لتحقيق هدف ما، مثل السعي في طلب الوصول إلى شيء عظيم أو كشفه.
- في “النمل”، حيث نجد أن الصرح كان مُمرَّدًا (مفرغًا) من القوارير، يضيف بُعد جمالي يعكس الترف والرفاهية، في إشارة إلى البناء الذي يعكس القدرة الإلهية من خلال الفخامة والدقة.
التدبر في السياق القرآني
فرعون وطلبه بناء الصَّرح
في الآية الأولى – غافر: 36:
“وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ”
طلب فرعون من هامان بناء صرح، لكن دلالته ليست بناء مادي كبرج أو هيكل صاعد فحسب. من المنطقي أن فرعون يعلم أن البرج مهما بلغ ارتفاعه فهو لا يصل إلى السماء، بل هو يمثل أداة بحث وفكر، فمقصد فرعون من بناء هذا “الصَّرح” هو أن يطّلع على “السبل” أو الأسباب التي تساعده على الوصول إلى أهدافه أو اكتشاف الأمور التي يجهلها، كما يريد من خلال ذلك التفوق على موسى، وهذا يعني أن فرعون طلب بناء معرفي مترابط
- “السبل” التي يتحدث عنها فرعون تشير إلى الوسائل المعرفية التي يسعى لاكتشافها، وهي قد تكون بمثابة أساليب فكرية أو معرفية لدحض دعوة موسى.
- الصَّرح هنا إذن لا يتعلق بالارتفاع الفيزيائي المادي، بل يتجاوز ذلك ليكون رمزًا لبناء فكرٍ أو منظومة عقلية تستهدف دحض حقيقة دعوة موسى، والنتيجة التي يريدها فرعون هي: “وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ”.
فرعون في الآية الثانية – القصص: 38
“فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ”
الطلب في هذه الآية مختلف، حيث يتم تحديد الوسيلة بشكل أوسع عبر الإشارة إلى الطين. الطين كان في العصر القديم وسيلة من وسائل الكتابة مثل الألواح الطينية.
- فإن “الصَّرح” يتخذ دلالة معرفية أخرى حيث يتساءل فرعون عن “إله موسى”، ويريد من “الصَّرح” أن يكون وسيلة لفهم هذه الفكرة أو معرفة الحقيقة التي يحاول موسى عرضها.
- الطين هنا له دلالة لسانية مهمة، فهو يرمز إلى وسيلة جمع المعلومات أو تسجيل الأفكار، مثل الألواح الطينية التي كانت تستخدم في تدوين الكتب والنصوص القديمة.
الصرح في الآية الثالثة – النمل: 44
“قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”
في هذه الآية، “الصَّرح” يأتي كـ دلالة جمالية وفنية. وهو ليس مجرد بناء مادي بل هو خلق إلهي عظيم يتميز بالشفافية والوضوح.
- الصرح في هذه الآية يمثل رمزًا للهداية والتوجيه الإلهي. كان بناءً رائعًا يشير إلى قدرة الله تعالى في خلق الأشياء بطريقة غير متوقعة، حيث اختلط فيه الشفافية (القوارير) مع الصلابة. وهذا الصرح يمثل العظمة الإلهية التي يتمثل فيها التحول الروحي للملكة، كما يعكس فكر سليمان في بناء منازل للهداية والإيمان.
مفهوم البناء في القرآن
في سياق الآيات السابقة، يمكننا ربط مفهوم البناء بـ الصَّرح على النحو التالي:
- البناء ليس فقط عملية مادية بل يرتبط أيضًا بالبناء الفكري والنفسي. في كل من الآيات، كان بناء “الصَّرح” جزءًا من عملية معرفية أو فكرية تهدف إلى الاستكشاف أو إظهار العظمة.
- في طلب فرعون لبناء صرح، كان يسعى إلى بناء أداة منطقية أو معرفية ليثبت بها كذب موسى، وهي ليست عملية بناء مادي.
الاستنتاجات
- “الصَّرح” في القرآن الكريم لا يقتصر على دلالة البناء المادي، بل يتعداه ليعبر عن المنظومات الفكرية أو الوسائل المعرفية التي تُستخدم لبلوغ أهداف معينة، سواء كانت مادية أو عقلية.
- في آيات غافر و القصص، نجد أن “الصَّرح” هو وسيلة للتفوق الفكري والتعرف على الحقائق أو دحضها.
- في آية النمل، يكتسب الصَّرح دلالة روحية ترتبط بالهداية والتوجيه الإلهي، وهو ما يميز هذا البناء عن تلك التي ذُكرت في الآيات الأخرى.
باختصار، يظهر “الصَّرح” في القرآن الكريم كـ رمز للمعرفة، والطموح الفكري، والهداية الروحية، وليس فقط كـ هيكل مادي، مما يفتح المجال لتفسير الكلمة في سياقات متعددة تُحاكي الطموحات الإنسانية والمقاصد الروحية.
اضف تعليقا