الفرق بين كبائر الإثم و إثم كبير
في منهج التعامل مع النص القرآني، لا يجوز إصدار حكم شرعي جزئي على فعل ما قبل فهم المنظومة الكاملة التي تحكمه، وذلك من خلال ترتيل النصوص ذات الصلة وقراءتها كوحدة مترابطة. فالحكم لا يُستخرج من آية منفردة، بل من خلال السياق العام الذي تبنيه النصوص في ترابطها المنهجي. وفي هذا السياق، يتعين الانطلاق من مبدأ أصولي ثابت: أن الحاكم في الدين هو الله وحده، ولا يُشرَّع التحريم إلا بنص صريح منه. ( القرءان)
أولًا: التحريم في القرآن
التحريم في اللسان القرآني لا يُؤخذ إلا من نص صريح، إما بلفظ (حرّم عليكم) كما في قوله تعالى:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ…﴾ [المائدة: 3]،
أو بلفظ (إنما حرّم ربي) كما في قوله:
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثْمَ، وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]
أو من خلال سياقات أخرى تحمل وعيدًا بالعذاب أو الغضب أو اللعن، مما يدل منطقيًا على أن الفعل في حيز التحريم.
وعبَّر علماء الأصول عن هذه الفكرة بصياغة قاعدة: ( الأصل في الأفعال الحلال إلا ما ورد تحريمه في القرءان عيناً أو النهي عنه) وقالوا : الحرام مقيد بالنص ، والحلال مطلق.
ثانيًا: الفرق بين (الإثم) و(التحريم)
“الإثم” في القرآن ليس حكمًا شرعيًا بحد ذاته، وإنما هو توصيف لحالة أو نتيجة مترتبة على الفعل. فالفعل الذي يوصف بأنه إثم، هو فعل يُنتج ضررًا أو مفسدة أو تجاوزًا عن الحد، لكن وصفه بالإثم لا يفيد في تحديد نوع حكمه، ولكن قطعاً ليس حلالاً.
فمثلاً:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ (البقرة: 219)
في هذه الآية، توصيف “إثم كبير” لا يُعد نصًا في التحريم، بل هو بيان للنتائج، وتوجيه وتنبيه وتعليم للتعامل مع الأمور من خلال قاعدة التمييز والتغليب
وهنا تبرز القاعدة اللسانية المنطقية:
ليس كل ما فيه إثم هو محرَّم، ولكنه ليس حلالًا قطعًا، ولابد من نص آخر يحدد نوع الحكم.
ثالثًا: الفرق بين (كبائر الإثم) و(إثم كبير)
يوجد فرق جوهري بين التعبيرين:
(كبائر الإثم): تركيب يدل على تصنيف ثابت لفئة مخصوصة من الأفعال، وهي الأفعال التي بلغ فيها الإثم حدّ الكبَر، وهذه داخلة في حيز التحريم بنص قرآني:
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثْمَ، وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ…﴾ [الأعراف: 33]
﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ…﴾ [النجم: 32]
- (إثم كبير): توصيف لدرجة من الإثم في فعل ما، وليس تصنيفًا شرعيًا. وبالتالي، فقولنا عن فعل أنه “إثم كبير” لا يرقى به إلى درجة التحريم، إلا إن وُجد نص صريح يُحرّمه.
مثال منطقي:
- “تحريم كبائر الأخطاء” لا تفيد “كل خطأ كبير محرم”
↤ لأن “كبائر الأخطاء” تُفهم كتصنيف، بينما “خطأ كبير” توصيف تقديري نسبي. وبالتالي لا تساوي منطقيًا بين الوصف والتصنيف إلا بنص يربطهما.
رابعًا: قاعدة اختلاف المبنى يؤدي لاختلاف المعنى
في اللسان القرآني، اختلاف المبنى يؤدي لاختلاف في المعنى. فبينما الجذر (ك ب ر) هو الأصل في كلمتي (كبار) و(كبائر)، إلا أن الفرق في المبنى يؤدي إلى فرق في الاستخدام:
- كبار: تُستخدم عادة للعقلاء (كبار القوم، كبار العلماء…)
- كبائر: صيغة جَمعية تدل على أفعال عُظم ضررها أو فُحش تجاوزها.
ومن ثم لا تُقال “كبائر” عن الأشخاص عادة، بل عن الجرائم أو الذنوب أو الأفعال.
مثال لبيان الفرق:
- “خطأ كبير”: توصيف لفعل محدد بدرجة كبيرة من الضرر
- “كبائر الأخطاء”: تصنيف يتضمن عدة أفعال خطيرة مُعرفة مسبقًا
خامسًا: هل كل ما يوصف بأنه خطأ كبير هو محرم؟
لا. من الناحية المنطقية واللسانية، وصف فعل بأنه خطأ كبير لا يعني أنه محرم، لأن:
- التحريم لا يُثبت بالتوصيف بل بالحكم.
- والتوصيف بــ”كبير” لا يجعل الفعل داخلًا بالضرورة تحت “تحريم كبائر الأخطاء”، ما لم يُبيّن بالنص أنه منها.
سادسًا: البغي بغير الحق، والإثم، والفارق بينهما
في سورة الأعراف، قال الله:
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثْمَ، وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ…﴾ (الأعراف: 33)
↤ هنا نلاحظ أمرين:
- أن البغي بغير الحق مُحرّم، ما يفيد ضمنًا وجود بغي بحق (مثل رد العدوان أو الانتصار للمظلوم)
- أما الإثم فلم يُقيد، لأن الإثم وصفاً لا يكون إلا تجاوزًا، فلا يُوصف بأنه بحق أبدًا.
فإذا قلنا: “الإثم توصيف لنتيجة الفعل”، فإن البغي أوسع، وقد يقع بحق أو بغير حق، والتحريم منصبّ فقط على ما كان بغير حق.
خاتمة:
الدراسة القرآنية لابد أن تقوم على منهجية الترتيل المنظومي للنصوص، وتحليلها لسانيًا ومنطقيًا دون استدعاء للأحكام المسبقة من التراث. وبهذا يتبين أن:
- الإثم توصيف وليس حكمًا.
- التحريم لا يُثبت إلا بنص صريح أو وعيد.
- الفرق بين “كبائر الإثم” و”إثم كبير” هو فرق بين تصنيف شرعي وتوصيف تقديري.
- لا يجوز نقل الحكم من أحدهما إلى الآخر دون دليل بيّن.
وبهذا تُبنى الأحكام على أساسٍ قرآني أصيل، خالٍ من الأفهام المتوارثة، و متجذر في لسان النص ومنطقه.
اضف تعليقا