هل مفهوم المدينة كان في زمن النبي نوح
يثير مصطلحا “القرية” و”المدينة” في القرآن الكريم أسئلةً حول تطور التجمعات البشرية زمنيًّا. بينما تُستخدم كلمة “قوم” لوصف مجتمع نوح عليه السلام، تُذكر “المدينة” صراحةً في قصص لاحقة، مثل قصة الرسل الثلاثة في سورة يس. هذا البحث يهدف إلى:
- تحليل دلالة المصطلحات في السياق القرآني.
- إثبات تتابع زمني بين عصر نوح وقصة أصحاب القرية، بناءً على تطور استخدام المفردات.
- قوم نوح: غياب مصطلح “المدينة”
- الوصف القرآني:
- يُطلق على مجتمع نوح مصطلح”قوم” بشكل متكرر، كما في قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ (الذاريات: 46).
- لا يُذكر أي وصف لـ”مدينة” أو “قرية”، ولا تُشير الآيات إلى معالم عمرانية أو أنظمة حكم.
- الدلالة التاريخية:
مصطلح “القوم” يُشير إلى جماعة بشرية متماسكة عرقيًّا أو مكانيًّا، دون تحديد مستوى التمدن، مما يوحي بأنهم كانوامجتمعًا رعويًّا، زراعيًّا بسيطًا، يعيش في تجمعات صغيرة قرب الأنهار.
- قصة الرسل الثلاثة في سورة يس: ظهور مصطلح “المدينة”
- النص القرآني:
﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا… * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰقَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ (يس: 13-20). - تحليل المصطلحات:
- “أصحاب القرية”: تُشير إلى تجمُّع سكاني مُحدد، لكنها لا تعني بالضرورة “مدينة” بالمعنى الحضاري.
- “المدينة”: ذُكرت صراحةً في وصف مكان الرجل الذي آمن بالرسل: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ﴾، مما يدل على أن “القرية” كانت تضم أحياءً أو أقسامًا (مثل “أقصى المدينة”)، وهو ما يُوحي بوجودتنظيم عمراني أكثر تطورًا.
- الفرق الزمني بين المجتمعين: أدلة قرآنية
- أولاً: تطور المصطلحات:
- في قصة نوح: غاب مصطلحا “القرية” و”المدينة”، واقتصر الوصف على “القوم”.
- في سورة يس: جُمع بين المصطلحين: “القرية” كتجمُّع رئيسي، و”المدينة” كوصف لأجزائها، مما يُظهر تطورًا في بنية المجتمع.
- ثانيًا: السياق التاريخي:
- يُرجح المفسرون (كابن كثير) أن “أصحاب القرية” في سورة يس هم أهل أنطاكية، الذين عاشوا بعد عصر نوح بفترة طويلة.
- هذا يتوافق مع التدرج الحضاري للإنسان من مرحلةالتجمعات القبلية (زمن نوح) إلى مرحلة التجمعات الحضرية (زمن الرسل الثلاثة).
- “القرية” و”المدينة” في القرآن: دلالات زمنية
- القرية: تُستخدم في القرآن لوصف أي تجمُّع سكاني مترابط مع بعضه (صغير أو كبير)، مثل:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً﴾ (النحل: 112). - المدينة: تُشير إلى تجمُّع أكثر تنظيمًا وصناعة وتجارة .
- الاستنتاج: استخدام “المدينة” في سورة يس يُظهر أن المجتمع وصل إلى مرحلةالتقسيم الداخلي (كوجود أطراف وأقسام)، وهو ما لم يُذكر في قصة نوح.
- التسلسل الزمني: من نوح إلى أصحاب القرية
- عصر نوح:
- مصطلحات: “قوم”، “فلك”، “دسر”.
- طبيعة المجتمع: زراعي،رعوي، دون تنظيم حضري.
- عصر الرسل الثلاثة (يس):
- مصطلحات: “القرية”، “المدينة”، “أقصى المدينة”.
- طبيعة المجتمع: تجمع سكاني مُقسَّم داخليًّا، مع إشارة إلى مركزية الحكم (كوجود مُكذِّبين للرسل).
الاستنتاج النهائي
القرآن الكريم يُظهر تطورًا دلاليًّا وزمنيًّا في وصف المجتمعات:
- قوم نوح: يمثلون مرحلةما قبل التمدن، حيث غاب مصطلح “المدينة”، واقتصر النشاط على الزراعة البسيطة.
- أصحاب القرية (يس): يمثلون مرحلةبداية التمدن، مع استخدام مصطلح “المدينة” لوصف أجزاء القرية، مما يدل على تقدم عمراني واجتماعي.
- الدلالة التاريخية: ظهور “المدينة” في نصوص لاحقة لقصة نوح يُثبت أنها حدثت في فترة متأخرة عنه، وهو ما يتوافق مع التطور الحضاري للإنسان من البداوة والريف إلى الحضر.
اضف تعليقا