فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ
القرآن الكريم ليس كتابًا تعبديًا فحسب، بل هو كتاب هداية ونور ومنهج حياة وتفكير ربط العبادة بالمعرفة والعمل. من أبرز المصطلحات التي تحتاج إعادة ضبط دلالي هي “ذكر الله”، والتي تُفهم عادةً على أنها تسبيح لفظي، بينما السياق القرآني واللسان العربي يُظهر أنها نظام معرفي وعملي متكامل.
هذا البحث يعيد تحليل الآيات التالية:
- {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }النساء103
- (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران:191).
المدخل: ضبط المصطلحات لُسانياً وقرآنيًا
- معنى “الذكر” في اللسان والقرآن
- لسانياً:
- “الذِّكْر” يُطلق على:
- الحفظ ( مثل: “ذَكَرَ الأمر” أي حفظه).
- العلم (كما في قوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) (النحل:43)، أي أهل العلم.
- النظام (كقولهم: “هذا أمر مذكور” أي مُنظم.
- ليس شرطًا أن يكون لفظيًا، بل يشمل الوعي والاستحضار العقلي.
- “الذِّكْر” يُطلق على:
- قرآنيًا:
- (وَاذْكُرْ رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ) (الأعراف:205) → ذكر داخلي (لا يتطلب نطقًا).
- (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) (ق:37) → التذكُّر يعني الفهم والاستدلال.
- معنى “القيام” و”القعود” و”على الجُنوب”
أ “قِيَامًا” من قوم وتدل قيام الإنسان بعمل معين
- وهذا يعني أنها ليس “الوقوف الجسدي”، بل الحالة النشطة من العمل أو البحث:
- في القرآن: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة:238) → قد تعني الانضباط في العمل المنهجي.
- في اللسان: “قام بالأمر” = نهض به وتولَّى تنفيذه.
- التطبيق:
- في الحرب: جمع المعلومات الميدانية.
- في العلم: إجراء التجارب.
ب “قُعُودًا” من قعد وتعني التوقف بقوة وعمق أو بُعد منهي بدفع شديد
- إذا ليس هو “الجلوس العشوائي”، بل حالة التحليل أو التوقف للدراسة: بعمق وجهد
- في القرآن: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) (الإسراء:29) → القعود هنا نتيجة التوقف عن الفعل .
- {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }الأعراف16
- {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ }التوبة46
- {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً }النساء140
الآية لا تقول “لا تجلسوا معهم”، بل لا تتخذوا حالة القعود المستقر الهادئ معهم، أي:
- لا تدخلوا في حالة استقرار سلوكي أو فكري أو توافقي معهم.
- لا تُوقفوا أنفسكم في محيطهم بثبات وهدوء وكأن الوضع عادي.
- لا تتخذوا موقف “المتقبّل الصامت” أو “المراقب السلبي”.
-
- التطبيق:
- في الحرب: تقييم الخطط.
- في العلم: تحليل البيانات.
- التطبيق:
ج “عَلَى جُنُوبِهِمْ” من جنب وتعني الجهد المستور المنتهي بجمع وضم مستقر
- إذا؛ ليست “الاضطجاع الجسدي”، بل الابتعاد أو الاختلاء لإعادة التنظيم:
- “الجَنب”
- الاجتناب (الابتعاد، كما في (وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) (النساء:36) = الجار البعيد).
- الميل عن الشيء (كقولهم: “جنَّب نفسه الأمر” أي تجنبه).
- “الجَنب”
{يَا حَسْرَتَى عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}
- “فرطتُ في جنب الله” يعني:
ضيّعت جهدي وفرصي في الدخول أو الثبات داخل الحالة التي كانت تحفظني أو تحويني أو تضمّني باحتواء واستقرار من قِبل الله.
يعني:
- الله أتاح لك حالة من القرب المحمي المحتوى.
- كان بالإمكان أن تكون مضمومًا داخل هذه الدائرة الثابتة بجَهدك.
- لكنك لم تبذل الجهد، ففرّطت.
-
- التطبيق:
- في الحرب: اجتماع القادة بعيدًا عن المعركة.
- في العلم: التأمل الفردي لصياغة النظريات.
- التطبيق:
التحليل السياقي للآيات
- سورة النساء (103) {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }103– السياق العسكري
{ التفسير الجديد:
-
- “قِيَامًا”: التنفيذ الميداني (مثل استطلاع أرض المعركة).
- “قُعُودًا”: تقييم الخطط (في غرف العمليات).
- “عَلَى جُنُوبِكُمْ”: الاجتماعات السرية (بعيدًا عن поле боя).
- النتيجة:
الذكر هنا تنظيم للمعلومات العسكرية، وليس تسبيحًا لفظيًا.
- سورة آل عمران (191) – السياق العلمي
- الآية:
{يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
- التفسير الجديد:
- “قِيَامًا”: الملاحظة والتجريب (مثل رصد النجوم).
- “قُعُودًا”: تحليل النتائج (في المختبرات).
- “عَلَى جُنُوبِهِمْ”: التأمل المنعزل (كالعلماء الذين يختلون بأفكارهم).
- النتيجة:
الذكر هنا عملية بحثية منهجية، وليس مجرد ترديد.
المنهجية القرآنية: الذكر كـ “نظام معرفي”
القرآن يربط “ذكر الله” بـ:
- المعرفة({أَهْلَ الذِّكْرِ} = أهل العلم).
- التفكير({يَتَفَكَّرُونَ} في آل عمران:191).
- التطبيق({قِيَامًا وَقُعُودًا} كمراحل عمل).
لماذا لم يقل القرآن “اذكروا الله في كل حال”؟
لأن التفصيل يوضح المراحل العملية:
- القيام = التنفيذ.
- القعود = التقييم.
- على الجُنوب = إعادة التنظيم.
الخلاصة: الذكر منهج حياة، ليس تلفظًا
- “ذكر الله”في هذه الآيات ليس تسبيحًا لفظيًا، بل نظامًا معرفيًا وعمليًا.
- القيام، القعود، على الجُنوبتصف مراحل العمل والبحث، وليست أوضاعًا جسدية.
- هذا الفهميتوافق مع اللغة والقرآن، ويقطع مع التفسيرات السطحية.
القرآن كتاب هداية وعمل، وليس مجرد نصوص تعبدية. وهذا التحليل يفتح آفاقًا جديدة لفهم المنهج القرآني في العلم والحياة.
اضف تعليقا