نفي القسم في القرآن الكريم عن الله
من التراكيب التي أُسيء فهمها في النص القرآني ما ورد في عدّة مواضع بعبارة: “فلا أُقسم”. تعامل معها كثيرون على أنها قسم من الله، وفسروا “فلا” بأنها زائدة، و”أُقسم” بأنها فعل قسم حقيقي. لكن التدقيق العقلي واللساني يُظهر أن هذا الفهم مستعار من الثقافة البشرية، ويخالف منطق القرآن ونظامه، وأننا في الحقيقة أمام نفيٍ للقسم لا إثبات له.
هل الله يُقسم؟
أولًا: هل القسم يَليق أو يجوز على الله؟
القسم في أصل بنيته فعلٌ بشري ناتج عن نقص في الثقة أو الحاجة للتوكيد أمام متلقٍ متردد أو شاك. وهو أسلوب يُستخدم حين لا يكون الدليل كافيًا أو الحجة ضعيفة أو السامع مرتاب. فهل يحتاج الله أن يُقسم لمخلوق؟
إن الله في خطابه القرآني لا يخاطب كائنًا غافلًا، بل يخاطب العقل الواعي القادر على إدراك البيان، ولذلك فهو لا يحتاج إلى القسم ليُقنع، بل يعرض الحقيقة بنظام محكم، ومنظومة متكاملة من الآيات الكونية والنصية.
ولهذا فإن القول بأن الله يُقسم يُعتبر إسقاطًا بشريًا على الإلهي، ومجرد بقايا عقلية تراثية تُسقط تقنيات البشر على الله.
لماذا لا يقسم الله؟ (العلاج الكامل للفكرة)
- خطاب الله يتصف بالحق والصدق فهو ثابت بذاته ولا يحتاج لمن يثبته، ولايحتاج لقسم أو حلف لأن الحق وصدر من الحق ويدرك من خلال البرهان، فهل يصح مثلا لعالم رياضيات أن يقسم أو يحلف على صواب معادلة رياضية ؟!!!
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }طه114
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }الحج6
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }البقرة176
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }الأنعام5
{اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً }النساء87
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً }النساء122
- الله لا يخاطب الغافلين، بل يخاطب العاقلين: فلا حاجة لتقنيات إثباتية مثل القسم.
- القرآن نظام إحاطة لا إقناع: لا يقول لك “صدقني” بل يقول: انظر، تدبر، افهم، وافق إن كنت واعيًا.
- الله هو المصدر، فهل يُقسم على ما قاله؟ كأن الطبيب يقسم أنه طبيب! أو النور يُقسم أنه نور!
- القسم ضعف في الحجة عند البشر، وهو سلوك يدل على التوتر أو الشك، والله منزه عن ذلك.
- عدم القسم يُعلي من قدر العقل: لأنك مدعو للوعي، لا للتلقّي المُقَسَّم.
ثانيًا: معنى “فلا أُقسم” ودلالة نفي القسم
التركيب: “فلا أُقسم” يتكون من:
- “فلا”: أداة نفي، وليست زائدة.
- “أُقسم”: فعل مضارع رباعي من “أقسم”، أي يُؤدي القسم، وليس مصدر “قَسَم”.
وبذلك فالمعنى: لا أُقسم بهذا، أي لا أحتاج إلى القسم، لأن ما يلي من المعنى ظاهر بيّن لا يتطلب تأكيدًا.
ثالثًا: التحليل الصوتي والدلالي لكلمة “أُقسم”
- الهمزة: تدل على بدء وإثارة وتنبيه.
- الواو: امتداد منضم مكانيًا، يدل على الإحاطة أو الالتفاف.
- القاف: حركة قوية منتهية أو قاطعة، تدل على تحديد أو غلق.
- السين: حركة سريعة منتشرة، تُشير إلى البثّ أو الانتشار.
- الميم: ختام مستقر مُغلق، يدل على الإنهاء والضبط.
إذًا، “أُقسم” فيها دلالة صوتية كاملة على محاولة إحاطة شيء وإثباته برباط قاطع، وهذا يناسب الخطاب البشري الذي يسعى لإثبات القول، لكنه لا يليق بالخالق الذي لا يُفتقر إلى حجّة.
رابعًا: المواضع التي ورد فيها “فلا أُقسم”
- فلا أُقسم بيوم القيامة (القيامة)
- فلا أُقسم بالخُنَّس الجوار الكُنَّس (التكوير)
- فلا أُقسم بمواقع النجوم (الواقعة)
في كل هذه المواضع، الحديث عن:
- حقائق كونية كبرى (النجوم، الزمن، الآخرة).
- دلائل وجودية تُدرك بالعقل والوعي.
فالنفي هنا يُفيد: هذه الأمور أعظم من أن تحتاج إلى قسم.
خامسًا: الرد على زعم أن “النجوم” تعني فواصل الآيات
قال بعضهم: إن “النجوم” في قوله: “بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ” تعني فواصل الآيات في المصحف، وهذا باطل من عدّة أوجه:
- النجوم في القرآن دائمًا كونية: لم يُستخدم لفظ “النجوم” قط للإشارة إلى علامات نصيّة أو تجزئة.
- مواقع النجوم شيء مستقل عن الخط: لو أُريدت الفواصل، لقال: “مواضع الآيات”، أو “مواقع التنزيل”.
- الخط المصحفي جاء لاحقًا: لم يكن المصحف مرقّماً أو مفصولًا بنجيمات في زمن النبي، فكيف يُشار إليه؟
- السياق يتحدث عن واقع كوني لا خطّي: الآية تقول: “وإنه لقسم لو تعلمون عظيم“ ثم “إنه لقرآن كريم“، أي أن الموقع الكوني شاهد على عظمة القرآن، لا طريقة كتابته.
سادسًا: المعنى العلمي في قوله “بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ”
الآية لم تقل: “بالنجوم” بل: بمواقع النجوم، والفرق دقيق وعميق.
في علم الفلك:
- نحن لا نرى النجم نفسه، بل ضوءه.
- الضوء يحتاج وقتًا طويلًا ليصل إلينا.
- النجوم البعيدة نراها كما كانت منذ آلاف أو ملايين السنين.
- قد يكون النجم قد انفجر أو تحرك أو غادر موقعه، لكن ضوءه ما زال في الطريق.
مثل:
- نجم بيت الجوزاء يبعد 650 سنة ضوئية. قد يكون مات منذ قرون، لكن نراه الآن!
- مجرات تبعد ملايين السنين الضوئية، نراها كما كانت.
هذا يفسّر بدقة قوله: “بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ”، أي الأماكن التي كانت فيها النجوم عندما أرسلت ضوءها، لا مواقعها الآن.
سابعًا: ما دلالة “وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم”؟
هذه العبارة لا تعني أن الله قد أقسم، بل تعني:
- لو كنتم تعلمون حقيقة ما وراء مواقع النجوم.
- لعرفتم أن هذه المواقع بذاتها أعظم من أن يُقسم بها.
- هي ليست أداة إثبات بل شاهدة بحد ذاتها.
إذًا: عظمة المواقع تدل على عظمة نظام الخلق، وبالتالي تدل على صدق القرآن، دون حاجة لقسم.
ثامناً: منظومة القرآن فوق فكرة القسم
- القرآن لا يعتمد على تراتبية عقلية بشرية.
- ولا يُخضعك لنظام جدلي يستلزم الحلف.
- بل هو بنية منسوجة من إحاطة، وتكامل، وتدبر، وتذكّر.
- ولذلك: من يطلب القسم ليؤمن، لم يدرك النظام.
الختام: لا قسم، بل عرض محكم
حين يأتي النص: فلا أُقسم، فهو لا يُقسم، بل يعرض حقائق:
- يوم القيامة: واضح، قادم، محتوم.
- مواقع النجوم: آية علمية وفلكية ودلالية.
- الجوار الكُنَّس: ظواهر كونية مبهرة تُفهم بالتأمل، ولعلها هي الثقب الأسود.
وكل هذا لا يحتاج إلى حلف أو قسم، بل إلى وعي.
بهذا نُعيد النظر في آيات القرآن على ضوء العقل والدلالة الصوتية، ونُنقّي المفهوم من تراث الحشو والوهم.
ولا يبقى إلا أن ندعو إلى إعادة بناء علاقتنا مع النصّ القرآني، كما هو: نورٌ لمن يعقل، لا وثيقة مشفوعة بحلف!
اضف تعليقا