نقد مقولة “من نقل القرآن نقل الحديث”

     يتميز القرآن الكريم والحديث النبوي بخصائص نقلية فريدة تعكس التفاعل بين الحفظ الإلهي والاجتهاد البشري. فبينما ارتكز نقل القرآن على التواتر الجماعي الذي حافظ على لفظه ، اعتمد نقل الحديث على نظام إسنادي خضع لعلم الجرح والتعديل. ومع ظهور مقولات معاصرة تزعم أن نَقَلة القرآن هم أنفسهم نَقَلة الحديث، وأن الطعن في أحدهما يستلزم الطعن في الآخر، يبرز ضرورة تفكيك هذه الدعوى عبر تحليل منهجي يستند إلى أقوال علماء الحديث والأصول، وإبراز الفروق الجوهرية بين النقلين.

     الإطار النظري لنقل النصوص الدينية

  1. نقل القرآن الكريم: التواتر والإجماع

ارتكز حفظ القرآن على نظام جماعي نشأ منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، جمع بين الحفظ الشفهي والتدوين المبكر، مدعومًا بوعد الله بالحفظ:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).
وهذا النظام التواتري – الذي نقلته جماعة لا تُحصى في كل عصر – يجعل ثبوت القرآن قطعيًّا، كما يوضح ابن عبد البر (ت. 463هـ):

الْقُرْآنُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ… لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِوَعْيِ الْقُلُوبِ (التمهيد، ج1، ص8).

  1. نقل الحديث النبوي: الإسناد والتحقيق

على العكس من ذلك، اعتمد نقل الحديث على رواية الآحاد عبر سلاسل إسنادية خضعت للنقد. يقول الخطيب البغدادي (ت. 463هـ):

أَخْبَارُ الْآحَادِ لَا تُوجِبُ عِلْمًا وَلَا عَمَلًا إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ شُرُوطِ الْقَبُولِ فِي نَاقِلِيهِ (الكفاية، ص12).
وهذا يبرز طبيعة الحديث الظنية، التي تتطلب فحصًا لعدالة الرواة وضبطهم، ويظهر حديث ضعيف وآخر موضوع، بينما لا يوجد هذا في النص القرءاني فكله ثابت قطعاً .

الأقوال الحرفية لعلماء الحديث والأصول

  1. الإمام الشافعي (ت. 204هـ)

يُفرِّق في “الرسالة” بين القرآن والحديث:

فَالْقُرْآنُ نَقَلَهُ جُمْهُورٌ عَنْ جُمْهُورٍ… وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: نَقَلَهُ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ حَتَّى يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْقُرْآنِ فِي النَّقْلِ (الرسالة، ص39).

  1. ابن حجر العسقلاني (ت. 852هـ)

يؤكد في “فتح الباري” تفرد القرآن بالتواتر:

نَقْلُ الْقُرْآنِ يَتَمَيَّزُ بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي لَا مِثِيلَ لَهُ، مُحَافَظٌ عَلَى لَفْظِهِ بِأَمَانَةِ اللهِ وَحِرْصِ الصَّحَابَةِ (فتح الباري، ج9، ص10).

  1. الإمام مالك (ت. 179هـ)

يشير في “الموطأ” إلى خصوصية القرآن:

لَقَدْ جَاءَ النَّبِيُّ بِمَا يُؤَكِّدُ أَنَّ لِلْقُرْآنِ صِفَاتٍ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا أَهْلُ التَّقْوَى (الموطأ، رواية يحيى الليثي، ج1، ص5).

نقد المقولة المعاصرة: “اتحاد النقلة يستلزم اتحاد القبول أو الرفض”

  1. النقد المنطقي

المقولة تُساوي بين نظامين مختلفين:

  • القرآن: نُقل بالتواتر القطعي، فلا يعتمد على أفراد.
  • الحديث: نُقل بآحاد الأسانيد، وهو مجال للاجتها، ويخضع للصحة أوالخطأ.
    فالطعن في راوٍ حديثي – ولو كان صحابيًّا – لا يؤثر على القرآن؛ لأن حفظه لا يرتبط بأشخاص، بل بأمةٍ جمعاء، كما يذكرابن قتيبة (ت. 276هـ):

الْقُرْآنُ نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنِ الْجَمَاعَةِ… فَلَا يَتَأَثَّرُ بِخَطَأِ الْفَرْدِ (تأويل مختلف الحديث، ص67).

  1. النقد القرآني

القرآن محفوظ بحفظ الله، بينما الحديث فحمله موكول للأمة بضوابط
فالحديثُ ليس جزءًا من النص المحفوظ.

  1. النقد العلمي
  • اختلاف المنهج: القرآن لا يُقبل إلا بالتواتر، بينما الحديث يُقبل بآحاد الأسانيد بعد تحقيق الشروط.
  • التوثيق التاريخي: تدوين القرآن بزمن مبكر للنبي في عهد أبو بكر، بينما تأخر تدوين الحديث إلى عصور التابعين.
  • المصداقية: القرآن مُتعبَّد بتلاوته، فلا يجوز روايته بالمعنى، خلافًا للحديث الذي جازت روايته بالمعنى عند الضبط.

الخاتمة

إنَّ الربطَ بين قبول القرآن والحديث بناءً على اتحاد النقلة يُعدّ مغالطة منهجية تُهمل الفروقَ الأصولية التي أقرها علماء الإسلام. فالتواترُ القطعي للقرآن – المدعوم بالحفظ الإلهي – يجعله في منأى عن الشكوك، بينما الحديثُ – بحكم طبيعته التفسيرية – خاضعٌ للنقد السندي. ومن ثمَّ، فإن الطعنَ في بعض روايات الحديث لا يُلزم الطعنَ في القرآن، بل يؤكد ضرورة التمييز بين النقلين، كما فعل الأئمةُ عبر القرون.

 وبالتالي هذه المقولة باطلة بكل المقاييس  ولا يرددها إلا أنصاف المتعلمين وهي حديثة عهد بالظهور لم تكن سائدة عند العلماء السابقين.

ـــــــــــــــــــــــــــ

المصادر المعتمدة:

  1. الشافعي،الرسالة، دار الكتب العلمية.
  2. ابن حجر العسقلاني،فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة.
  3. الإمام مالك،الموطأ (رواية يحيى الليثي)، دار إحياء التراث العربي.
  4. ابن قتيبة الدينوري،تأويل مختلف الحديث، دار الكتب العلمية.
  5. الخطيب البغدادي،الكفاية في علم الرواية، المكتبة العلمية.
  6. ابن عبد البر،التمهيد، وزارة الأوقاف المغربية.