السياسة بين النظرية والتطبيق: حدود الصواب و إكراهات الواقع

    تقوم السياسة، بوصفها علما وممارسة، على مزيج معقد من المبادئ النظرية والمصالح الواقعية. وبينما تهدف النظريات السياسية إلى تنظيم المجتمعات وفق معايير مثالية من العدل والحرية والمساواة، تظل الممارسة السياسية خاضعة لشروط الزمان والمكان، ولحسابات القوة والتوازنات الاجتماعية والثقافية. من هنا تظهر الفجوة المزمنة بين “ما يجب أن يكون” وفق النظرية، و”ما هو كائن” في الواقع العملي. ولا يندر أن يُضحي السياسي بما هو صواب من الناحية النظرية، لصالح ما هو مناسب وفعال في ظرف سياسي معين، حتى لو تعارض مع القيم المعلنة.

أولًا: النظرية السياسية وإغراء المثالية
النظرية السياسية تسعى إلى تصور أشكال الحكم المثلى، مستندة إلى مفاهيم كالمساواة، والعدالة، والمواطنة، والحريات. ومن هذا المنظور، فإن النظام الديمقراطي الليبرالي – كما يظهر في دساتير الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية – ينص صراحة على حقوق متساوية لجميع المواطنين، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الانتماء الثقافي. هذه النصوص النظرية تفتح الباب، من حيث المبدأ، أمام أي مواطن، بمن فيهم المسلم أو المنتمي لأقلية دينية أو عرقية، لتولي أعلى المناصب، بما في ذلك رئاسة الدولة.

ثانيًا: التطبيق السياسي و إكراهات الواقع
لكن الواقع السياسي لا يخضع دائماً لهذا الإطار النظري. فالممارسة السياسية، بخاصة في الديمقراطيات الراسخة، تتأثر بالعرف السياسي، والمخاوف الاجتماعية، والتوازنات التاريخية. رغم أن دساتير الدول الغربية لا تمنع المسلم – نظريًا – من تولي منصب الرئيس، فإن العرف السياسي والمزاج الانتخابي العام كثيرًا ما يجعلان ذلك غير ممكن عمليًا. فالناخب الغربي، لأسباب دينية وثقافية وتاريخية، لا يزال يعارض وصول مسلم إلى قمة السلطة، خشية اختلال الهوية الوطنية أو الإخلال بما يُتصور أنه “قيم الدولة”.

ثالثًا: المفارقة بين الشرعية القانونية والشرعية السياسية
هذه المفارقة تكشف عن بُعد مهم في فهم السياسة: الشرعية القانونية لا تساوي دائمًا الشرعية السياسية. فقد تكون الخطوة دستوريًا مقبولة، لكنها سياسيًا مستبعدة. ويجد السياسي نفسه أحيانًا مضطرًا لتبني مواقف لا تتفق مع المثل العليا للنظرية، لكنه يراها ضرورية لكسب دعم جماهيري، أو للحفاظ على الاستقرار، أو لتفادي صدام ثقافي واسع. فالممارسة السياسية تتطلب براغماتية عالية، حيث لا يكون النجاح في الدفاع عن “الحق”، بل في اختيار “المناسب”، ولو كان متناقضًا مع بعض المبادئ.

رابعًا: الحالة الأمريكية والأوروبية كمثال تطبيقي
في الولايات المتحدة، يُعد الدستور من أعرق الوثائق التي كرّست مبدأ المساواة وحرية الدين، دون تمييز. ومع ذلك، لم يُنتخب حتى اليوم رئيس أمريكي من خلفية دينية غير مسيحية، ولم تقترب أي شخصية مسلمة من المنافسة الجدية على المنصب. وعلى الرغم من نجاح بعض المسلمين في تولي مناصب حكومية أو رئاسة بلديات كبرى، كما في حالة “صادق خان” عمدة لندن في بريطانيا، فإن سقف الطموح السياسي يظل محكومًا بما هو “مقبول عرفًا”، لا بما هو “ممكن قانونًا”.

خامسًا: النتائج والدلالات السياسية
هذا التناقض بين النظرية والتطبيق لا يعني بالضرورة نفاقًا أو خداعًا سياسيًا، بل يعكس طبيعة السياسة ذاتها بوصفها فن إدارة الممكن. وتفرض السياسة، بخاصة في النظم الديمقراطية، التفاعل مع ما يريده الناخبون، لا مع ما تفرضه المبادئ المطلقة. وهنا يبرز دور العقل السياسي، لا الفيلسوف، في التقدير والتوفيق بين الممكن والمطلوب، بين القيم والمصالح، بين المبادئ والمنافع.

خاتمة:
إنّ التوتر الدائم بين النظرية والتطبيق في العمل السياسي ليس انحرافًا، بل جزء أصيل من طبيعة السياسة ذاتها. فالسياسي لا يسعى إلى إقامة المدينة الفاضلة، بل إلى الحفاظ على النظام وتحقيق المكاسب الممكنة ضمن الإكراهات الواقعية. ومن هنا، فإن الصواب السياسي لا يُقاس دائمًا بصحة النظرية، بل بمدى ملاءمته للظرف الراهن، ولو بدا ذلك نظريًا موضع جدل أو حتى خطأ.