القلب والعقل الوظائف النفسية والمعرفية بين الدماغ والقلب العضوي
لطالما ارتبط “القلب” في التعبير الثقافي واللساني بمشاعر الإنسان وتفكيره ووعيه، ويعود ذلك إلى تصوراتٍ قديمة حين لم تكن بنية الجهاز العصبي مفهومة، فكان يُظن أن مركز العاطفة والعقل هو القلب، نظرًا لتغير نبضه مع الانفعالات. غير أن العلم الحديث، لاسيما في علم الأعصاب، قد أثبت بصورة قاطعة أن الوظائف النفسية والعقلية كالتفكير، والتعقّل، والفهم، والهوى، والشهوات، تحصل في الدماغ حصراً، ولا علاقة مباشرة للقلب العضوي بها.
الدماغ هو مركز الوظائف النفسية والعقلية
أظهرت الأبحاث العصبية أن:
- التفكير والتخطيط واتخاذ القرار تتم في الفص الجبهي (frontal lobe).
- الذاكرة والتخزين والاسترجاع تتحكم به مناطق مثل الحُصين (hippocampus) واللوزة الدماغية (amygdala).
- الشهوات والدوافع تنشأ من الجهاز الحوفي (limbic system) بما فيه الوطاء (hypothalamus).
- المشاعر والانفعالات تُدار من خلال تفاعل مناطق دماغية متعددة.
هذه العمليات تتم داخل شبكة من الخلايا العصبية المتشابكة، وهي غير قابلة للنقل أو الزرع كما في الأعضاء الأخرى.
وظيفة القلب العضوي: مضخة للدم
القلب من الناحية البيولوجية عضلةٌ تضخ الدم في أنحاء الجسد، ناقلةً الأكسجين والمواد الغذائية إلى الخلايا، بما فيها خلايا الدماغ. وهو عضو حيوي لا شك، لكنّه لا يمتلك خلايا عصبية تؤهله للقيام بعمليات تفكير أو وعي أو رغبة.
حتى الدراسات التي تناولت وجود خلايا عصبية محيطية أو إشارات كهربائية في القلب (كجزء من الجهاز العصبي الذاتي)، فإنها لا تُقارن إطلاقاً بتركيب الدماغ أو وظائفه المعقدة. فكل التفاعلات القلبية العصبية تهدف فقط إلى تنظيم الإيقاع والنبض وضغط الدم، وليست مسؤولة عن وعي أو إدراك.
هل تتغير النفس أو الشهوات بزراعة القلب؟
ظهرت في الإعلام وبعض الكتب حالات تقول إن شخصاً خضع لزراعة قلب فصار “يشتهي طعاماً لم يكن يحبه”، أو “يتبنى ميولاً تشبه المتبرِّع”، وتُعرض هذه القصص وكأنها دلالة على “ذاكرة خلايا القلب”.
لكن هل هذه الحالات علمية وموثوقة؟
✅ الرد العلمي:
- هذه القصص فردية anecdotal وليست أدلة علمية:
- لم تُوثق هذه الحالات في دراسات محكمة.
- لا توجد تجارب سريرية مضبوطة تثبت ذلك.
- التفسيرات الممكنة:
- الصدمة النفسية الناتجة عن الزرع قد تغيّر سلوك الشخص لفترة.
- معرفة تفاصيل عن المتبرع (إن حصلت) قد تؤثر نفسياً على المريض.
- بعض الأدوية المثبطة للمناعة تؤثر على المزاج والسلوك.
- ظاهرة Placebo (الإيحاء) قد تخلق تغييرات مؤقتة.
- غياب البنية العصبية في القلب تمنع وجود “ذاكرة” فيه:
- القلب لا يحتوي على أي مراكز للتخزين العصبي أو المعالجة المعرفية.
- لا توجد آلية فسيولوجية لنقل الصفات النفسية عبر الخلايا العضلية القلبية.
التمييز بين النفس والعضو
من المهم التفريق بين:
- النفس: هي مجموع الإدراك والوعي والرغبات والانفعالات، وجميعها تحصل في الدماغ.
- القلب العضوي: مجرد عضو حي ينقل الدم. لا يحمل ذاتاً أو وعياً.
زراعة القلب لا تغيّر شخصية الإنسان، تمامًا كما أن زراعة الكلى أو الكبد لا تنقل “صفات” المتبرع.
الخلاصة
الوظائف النفسية والعقلية – من التفكير إلى الشهوات والهوى – كلها تحصل في الدماغ، وتُدار عبر شبكة عصبية معقّدة لا يمكن نقلها أو زرعها. القلب، رغم رمزيته الأدبية، يبقى مجرد مضخة عضلية. وما يُروى من قصص حول انتقال ميول أو مشاعر عبر زراعة القلب لا يتجاوز كونه قصصًا غير مثبتة علميًا، ولا يمكن اعتبارها مرجعًا لتفسير علم النفس أو بيولوجيا الإنسان.
اضف تعليقا