عداوة الشيطان مع الإنسان وليست مع الرحمن
في الخطاب القرآني، تتضح معالم الصراع الأساسي في الوجود الإنساني، وهو صراع ليس بين الإنسان والله، بل بين الإنسان والشيطان. كثير من الفهم التراثي قدَّم الشيطان وكأنه عدو لله، في حالة تمرّد وجودي، وكأن بينهما صراعًا على السيطرة. لكن النص القرآني المجرد لا يشير إلى أي مواجهة بين الشيطان والرحمن، بل يضع الشيطان كجزء من منظومة الابتلاء، وعداوته موجَّهة بشكل مباشر وواضح إلى الإنسان.
- الشيطان عدو للإنسان لا لله
النصوص القرآنية تُبيّن بشكل قاطع أن الشيطان عدو لبني آدم:
“إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا” (فاطر: 6)
“أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ” (يس: 60)
“إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ” – (البقرة، الأعراف، الكهف، وغيرها)
لا يوجد في القرآن أي موضع يصف الشيطان بعدو لله. بل الشيطان نفسه يخاطب الرب ويُقرّ بعزته:
“قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ” (ص: 82)
“قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ” (الأعراف: 14-15)
هنا نرى أن العلاقة بين الرب والشيطان علاقة نظام، لا عداوة؛ والشيطان كرمز للشر يستمر مقابل الخير ضمن هذا النظام.
- وظيفة الشيطان: إغواء، تزيين، تغيير، توقيف
الشيطان لا يملك القهر، بل أدواته كلها تتمحور حول التأثير النفسي والسلوكي:
“قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ” (الأعراف: 16)
“وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ… وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ” (النساء: 119)
نلاحظ في هذه الآيات أن الشيطان لا يقول: “لأحطمنهم” أو “لأقتلهم”، بل: لأغوينهم، لأمنينهم، لآمرنهم. أي أن وسيلته هي الوسوسة والإقناع والتزيين، وكلها أفعال تحتاج إلى قبول من الطرف الآخر.
هو لا يدفع الإنسان بالقوة، بل يُغريه ليُغيّر خلقه – أي سلوكه، غاياته، توجهه، وظيفته الأصلية.
“إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (البقرة: 169)
- لا تنتظر تدخلاً إلهيًا لحل المواجهة
من فهمنا للمنهج القرآني، نُدرك أن المواجهة مع الشيطان هي مسؤولية ذاتية. الله لا يتدخل في كل مرة ليمنع الشيطان عنك، بل يُحمّلك مسؤولية القرار:
“إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا” (النساء: 76)
“إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ” (الإسراء: 65)
“إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ” (النحل: 100)
السلطان إذًا ليس مفروضًا، بل مُكتسب بالرضا والاتباع. من يتولَّى الشيطان، يصير تحت تأثيره، ومن يعي عداوته ويتخذ موقفًا، فلا سلطان للشيطان عليه.
- الصراع داخلي.. وليس خارجياً
الشيطان لا يأتيك في صورة مارد يهاجمك، بل يتحرك في المساحات النفسية الداخلية:
“إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ” (الأعراف: 27)
هنا لا يتحدث النص عن رؤية بصرية ، بل عن إدراك. الشيطان و رأيه فيكم ويعمل في المجتمع من خلال المؤامرات ويستخدم أسلوب الترغيب والترهيب، و الغواية والإيحاء والتزيين، لذلك تتطلب مواجهته وعيًا دائمًا.
خاتمة:
لا خصم لك إلا الشيطان، ولا مُعين لك إلا وعيك
الشيطان ليس في حرب مع الله، بل في مشروع لإسقاط الإنسان واستعباده. وكل فرد في هذا الكون هو وحده المسؤول عن حماية ذاته، وليس هناك وعدٌ بالتدخل الإلهي لإزاحة الشيطان عنه. الله أنذر، وحذّر، وأوضح، وأبقى المواجهة في يد الإنسان:
“فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا”
من يتخذ موقفًا وقرارًا، فقد بدأ المعركة. ومن ينتظر من ينقذه، قد فاتته اللحظة.
الصراع مع الشيطان ليس معركة ضجيج وترانيم.. بل معركة وعي وعمل.
اضف تعليقا