نحو بناء الإنسان المعاصر

إن مشروع بناء الإنسان لا يمكن أن يُختزل في بُعدٍ تربوي أو ديني أو سلوكي منفصل، بل هو فعلٌ معرفي شامل يتطلب إعادة النظر في الأسس التي يتم عبرها تشكيل الوعي الإنساني، وتمييزه عن مجرد التجميع الثقافي أو التلقين العقدي.

انطلاقًا من منظومة القرآن اللسانية، لا ككتاب ديني مغلق، بل كنظام كوني للتفكير والتصنيف والبيان، تَبرز الحاجة إلى إعادة بناء “الإنسان” ككائنٍ حر، مفكر، عادل، متّزن، متعايش، يرى الآخر لا كتهديد، بل كمجال للتعارف والتفاعل الأخلاقي.

أولًا: الإنسان في المنظور القرآني – الكينونة الواعية لا الهوية المغلقة

لا يقدّم القرآن الإنسان كهوية طائفية أو قومية أو دينية، بل ككائن واعٍ يمتلك قابلية الاستخلاف والفعل والتلقي الحرّ. فالإنسان في التصور القرآني:

  • كائنٌ يُخاطَب لأن فيه قابلية الاستجابة والتفكّر، لا لأنه تابعٌ لمنظومة شعائرية.
  • محكومٌ بمنظومة قيم، لا بانتماء دموي أو شعاري.
  • مؤهَّل للتمييز العقلي عبر آليات “اللسان” كجهاز بياني مفاهيمي، لا عبر سلطة الموروث.

ثانيًا: التفكير النقدي الحرّ كأداة تحرير

من أبرز ملامح البناء القرآني للوعي الإنساني، الدعوة إلى تحرير الإنسان من “الوراثة العقائدية”، واستبدالها بمسؤولية عقلية:

  • {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}، نقدٌ واضح للتعطيل العقلي.
  • {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، تأصيل لفكرة البرهان لا التقليد.
  • {إنا وجدنا آباءنا على أمة}، تفكيك مباشر لسلطة السلف والقبيلة.

بهذا، لا يقوم البناء على حشو الذاكرة بالمقدس، بل على تفكيك السائد، وإعادة التشكيل وفق معيار الحق، لا وفق الانتماء.

ثالثًا: من التعدد إلى التعارف – تجاوز العرق والطائفة

القرآن لا ينكر التعدّد، بل يثبّته كأصل، ويحوّله من حالة تفرقة إلى مشروع تعارف:

{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا}.

والمقصود ليس تعارفًا شكليًا، بل بناء متبادل على أساس:

  • الاعتراف بالاختلاف دون نزاع.
  • التفاعل مع الآخر لا تذويبه ولا إقصاؤه.
  • نقد الانغلاق والطائفية التي تجعل من الدين أداة عزل لا أفق تواصل.

رابعًا: التعاون والسلام كقيم عابرة للهوية

في مشروع بناء الإنسان، يصير السلام مفهومًا عمليًا لا خطابيًا:

  • السلام لا يُمنح لمن يوافقني، بل لمن يُلقيه عليّ {فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا}.
  • التعاون ليس على العقيدة، بل على القيم: {وتعاونوا على البر والتقوى}.

والحرية هنا لا تعني الفوضى، بل تعني: لا إكراه في الدين، لا وصاية على العقول، لا قداسة للبشر.

خامسًا: منظومة القيم كجوهر للتماسك الإنساني

ما يجمع الإنسان بغيره ليس الدين، ولا الجنس، ولا المذهب، بل القيم المشتركة، وهي التي جعلها القرآن معيار التفاضل:

  • {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، والتقوى فعلٌ أخلاقي لا شعار.
  • {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}، تقويضٌ لمركزية الكراهية.

وبذلك، تصبح الأخلاق لا ملحقًا إيمانيًا، بل بنية تأسيسية في وعي الإنسان، تُحدّد سلوكه، علاقته بالآخر، ونمط اشتغاله في الوجود.

خاتمة

إن مشروع بناء الإنسان المعاصر لا يمكن أن يتم عبر مؤسسات التلقين، ولا عبر إنتاج خطاب هوياتي مغلق. بل هو مشروع تفكيك وإعادة بناء، من داخل النصّ المؤسس نفسه، بآلياته اللسانية والبيانية، وفلسفته في الحرية، والتفكير، والتعارف، والتسامح.

وإن المخرج من الطائفية والتطرف والتمزق، ليس في العودة إلى الماضي، بل في تفكيك الماضي، وإعادة قراءة النصّ بمنهجية قرآنية لسانية عقلانية، تؤسس لإنسانٍ فاعل، عادل، حر، متّزن، يرى في الآخر شريكًا لا خصمًا، وفي القيم نجاته لا في الطائفة.