تحليل دلالي لصيغ “يد الله ويداه”
دراسة في سياق الآيات و يتناول هذا التحليل الدلالات اللسانية لصيغة “اليد” في سياقين قرآنيين مختلفين، وهما قوله تعالى:
– ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا۟ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(المائدة: 64)
– ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(الفتح: 10)
ويهدف إلى استجلاء الفروقات الدلالية الناتجة عن استخدام صيغة المثنى (“يداه”) في الآية الأولى والمفرد (“يد”) والجمع (“أيديهم”) في الآية الثانية، وذلك بالاعتماد على تحليل لساني ومنطقي يراعي السياق القرآني.
- الإطار المنهجي التحليلي
ينطلق التحليل من فهم دلالة الجذر اللساني “ي- د-و” وما يتفرع عنه من صيغ صرفية، مع التركيز على ما تحمله هذه الصيغ من معانٍ عددية ودلالية:
- الجذر الثلاثي (ي- د- و): يحمل دلالة أساسية تشير إلى القدرة والقوة المؤثرة التي ينتقل بها الفعل من الفاعل إلى المفعول به.
- صيغة المثنى: تعبر عن انضمام وحدة إلى أخرى مماثلة لها (1+1=2)، مؤكدة على التكرار الثنائي المتحد في كيان واحد.
- صيغة الجمع غير الكمي: تدل على تعدد يزيد عن اثنين دون تحديد دقيق للعدد، وقد تشير إلى تعدد في الذوات أو في مظاهر الصفة.
- صيغة المفرد: تشير إلى وحدة المفهوم دون تكرار أو انضمام عددي.
- الدلالة السياقية للمثنى “يداه مبسوطتان”
في قوله تعالى “بل يداه مبسوطتان”، تحمل صيغة المثنى “يداه” دلالات عميقة تتعلق بطبيعة القدرة الإلهية:
- التعبير عن قدرات متكاملة: يشير المثنى هنا إلى تجلي القدرة الإلهية في صورة ثنائية متآزرة، حيث تنضم القدرة إلى نظيرتها لتشكيل وحدة فعل قوية ومضاعفة التأثير. هذا لا يعني تعددًا ماديًا، بل تأكيدًا على شمولية القدرة وتنوع مظاهرها في إطار وحدتها.
- التأكيد الكمي الثنائي: استخدام المثنى يحدد العدد بدقة (اثنان)، مما يضفي وضوحًا على كيفية تحقق هذه القدرة، وكأنها تتجلى في صورة فعلين متلازمين ومتكاملين.
- الحفاظ على جوهر الدلالة: إضافة علامة التثنية (يداه) لا تغير من بنية الجذر “ي- د- و”، بل تؤكد على تضاعف هذه القدرة الأساسية دون إدخال أي عناصر دخيلة على معناها الأصلي.
- الإيحاء بالتوازن والشمولية: “يداه مبسوطتان” توحي بصورة منطقية عن الكرم والجود الفيّاضين من جانب الله، وكأن العطاء يتدفق من مصدرين متوازيين وشاملين، دون تحديد لجهة معينة بل دلالة عن طبيعة العطاء الإلهي المطلق المضاعف.
- الدلالة السياقية للجمع “أيديهم”
في المقابل، تحمل صيغة الجمع “أيديهم” في قوله تعالى “يد الله فوق أيديهم” دلالات مختلفة:
- الإشارة إلى تعدد الأفراد: “أيديهم” تعني “يد” كل واحد من المبايعين، وهو جمع يدل على تعدد الذوات التي تقوم بفعل المبايعة.
- إبراز الفارق بين قدرة الخالق وقدرة المخلوقين: “يد الله فوق أيديهم” يدل على علو وسمو القدرة الإلهية المطلقة فوق قدرات البشر المحدودة والمتفرقة. الجمع هنا يؤكد على هذا التباين الكمي والكيفي بين الطرفين.
- العلّة في استخدام المفرد “يد” في “يد الله فوق أيديهم”
إن اختيار صيغة المفرد “يد” في تعبير “يد الله” له دلالة مقصودة في هذا السياق:
- التأكيد على وحدانية القدرة الإلهية: استخدام المفرد هنا يشدد على أن قدرة الله هي قدرة واحدة متفردة ومتعالية، لا تقبل التجزئة أو التعدد الذاتي.
- التناسب مع وحدة المبايعة: المبايعة هي عهد واحد والتزام فردي تجاه الله، وبالتالي فإن استخدام المفرد “يد” يرمز إلى وحدة هذا العهد والالتزام.
- المقابلة الدلالية مع الجمع: مجيء “يد” بالمفرد في مقابل “أيديهم” بالجمع يبرز بشكل أوضح الفارق الجوهري بين القدرة الإلهية الواحدة المهيمنة والقدرات البشرية المتعددة والمحدودة.
- لماذا لم ترد “يد” بالمفرد في “يداه مبسوطتان”؟
إن استخدام المفرد “يد” في سياق “يداه مبسوطتان” كان سيُفقد الآية جزءًا مهماً من دلالتها:
- إخفاء دلالة التكرار والتعاظم الثنائي: لو قيل “يد مبسوطة”، لغابت دلالة انضمام القدرة إلى نظيرتها وتضاعفها في وحدة واحدة، وهو ما يؤكد على شمولية القدرة الإلهية وتكاملها.
- فقدان قوة التعبير عن الشمولية: المثنى هنا أقوى دلالة على سعة القدرة الإلهية وعموم نفعها من المفرد الذي قد يوحي بفعل واحد أو اتجاه واحد.
خلاصة دلالية
يتبين من التحليل اللساني والسياقي أن اختيار القرآن الكريم لصيغة المثنى “يداه مبسوطتان” يهدف إلى ترسيخ مفهوم القدرة الإلهية كمصدر فياض ومتكامل، يتجلى في صورة ثنائية مؤكدة على شموليتها وتوازنها وتعاظمها. بينما يأتي الجمع “أيديهم” ليصور تعدد القدرات البشرية المحدودة والمقابلة لعلو القدرة الإلهية الواحدة والمتفردة. أما استخدام المفرد “يد” في “يد الله فوق أيديهم” فيؤكد على وحدانية هذه القدرة الإلهية وعلوها المطلق في سياق العهد الفردي. إن هذا التنوع الدقيق في استخدام الصيغ اللسانية يعكس عمق الدلالات القرآنية وإحكامها، ويُظهر حيوية الخطاب القرءاني ومنطقيته.
اضف تعليقا