عرض ونقد كتاب “كون من لا شيء” – لورانس كراوس
وفق المنهج المنطقي والفلسفي الصارم
يحاول الفيزيائي النظري لورانس كراوس في كتابه “كون من لا شيء: لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟” أن يبرهن على إمكانية نشوء الكون من “لا شيء” دون الحاجة إلى مفهوم الخالق أو المسبب الأول.
يستند في أطروحته إلى معطيات الفيزياء الحديثة، خاصةً ميكانيكا الكم، النسبية العامة، مفهوم الفراغ الكمي، والطاقة المظلمة، ليُبرر نشأة الكون تلقائيًا – حسب قوله – دون وجود سابق عليه.
لكن رغم جرأة الطرح، إلا أن الكتاب يرتكز على خلط اصطلاحي ومنطقي خطير بين مفاهيم مركزية مثل “الشيء”، “اللاشيء”، “العدم”، و”الفراغ”، مما يجعل نتائجه غير منسجمة مع المنطق العقلي، ولا حتى مع اللسان الدقيق للعلم نفسه.
المفاهيم الأساسية كما يجب ضبطها منطقيًا:
- الشيء:
هو كل ما يُتشَيّأ في الواقع أو الذهن، وله قابلية للتصور وله أبعاد أو صفات. الشيء يمكن الإشارة إليه أو إدراكه أو تصور أثره، سواء أكان ماديًا أو مجردًا.
- اللاشيء:
هو النفي المطلق لأي وجود. لا يُمكن تخيله، لا يُوصَف، لا تُنسَب له خصائص، ولا يخضع لقانون أو تغير أو حركة. ومن لحظة ما يُنسب له “شيء”، يخرج من دائرة اللاشيء إلى دائرة الوجود. ويصر شيء.
- العدم:
ليس مرادفًا للاشيء، بل هو توصيف لحالة شيء كان فاعلًا أو مؤثرًا ثم فقد فاعليته، أي أنه شيء معدوم أو مُعطَّل، لكنه لا يزال شيئًا من حيث الماهية، وإن تعطل من حيث الوظيفة.
- الفراغ:
هو مفهوم نسبي. عندما نقول “الغرفة فارغة”، فنحن نقصد خلوّها من سكانها أو أثاثها، لا من الهواء أو الطاقة. أما “الفراغ الكمومي” فهو وسط فيزيائي نشط، مليء بالتقلبات الطاقية والجسيمات الافتراضية، وله قوانين. إذًا فهو “شيء” بكل المعايير، ولا يصح إطلاق “اللاشيء” عليه.
محتوى الكتاب: ماذا يطرح كراوس؟
يستعرض كراوس تطورات علم الكون (Cosmology) من خلال ثلاث دعائم رئيسية:
- الفراغ الكمومي:
يُشير إلى أن ما نظنه “فراغًا” ليس خلوًا، بل حالة فيزيائية غنية بالجسيمات والمجالات التي تظهر وتختفي بسرعة. ويزعم أن هذا الفراغ قادر، تحت ظروف معينة، أن يُنتج كونًا بأكمله عبر تقلبات طاقية.
- الطاقة المظلمة:
يطرح أن تسارع تمدد الكون سببه طاقة مظلمة كامنة في الفراغ نفسه. هذه الطاقة، حسب بعض الحسابات، تُمثل أكثر من 70% من محتوى الكون، ويُستدل بها على أن “الفراغ” ليس بلاشيء بل له “طاقة” فاعلة.
- الكون المسطّح (Flat Universe):
يرى أن التوازن الدقيق في كثافة المادة والطاقة في الكون يشير إلى أنه نشأ من حالة “متوازنة بدقة”، وهو ما يُستخدم كحجة لدعم فكرة النشوء العشوائي من لا شيء، لأنه – بزعمهم – لا يحتاج طاقة صافية (Net energy = zero).
نقد منطقي وفلسفي للكتاب:
- مغالطة تعريف اللاشيء:
كراوس يُطلق لفظ “اللاشيء” على الفراغ الكمومي. وهذا تزييف اصطلاحي، لأن الفراغ الكمومي شيء: له خصائص، يُقاس، وتحدث فيه تغيرات. إنه ليس فراغًا بالمعنى الميتافيزيقي، ولا “لا شيء” بالمعنى المنطقي.
إذا احتوى الشيء على قوانين ونشاط وخصائص، فليس بلاشيء.
- القول بنشوء “شيء” من “لاشيء” ينقض مبدأ السببية:
السببية قاعدة عقلية ضرورية؛ إذ يُحيل العقل حدوث أي شيء دون سبب. فإذا قيل إن الكون بدأ بلا سبب ومن لاشيء، فهذا يهدم كل علم، وكل تجربة، وكل حساب. لأن كل العلم مبني على سؤال “لِمَ؟”.
القبول بنشوء شيء من لاشيء يُعادل القبول بالعبثية، وبهذا تنهار الرياضيات، الفيزياء، والمنطق نفسه.
- الاعتماد على نظريات لم تُثبت بعد:
كل ما يعتمد عليه كراوس من مفاهيم مثل الطاقة المظلمة، والتقلبات الكمومية، والانفجار العظيم، هي نظريات غير مكتملة وقابلة للمراجعة. لذا لا يُبنى عليها يقين وجودي أو فلسفي، ومع افتراض ثبوتها فهي شيء وسبب لابد لها من مسبب.
- أسلوبه الجدلي ضد الدين والفلسفة:
بدلًا من أن يطرح كراوس فكرته ضمن إطار علمي صرف، يحمّل الكتاب هجومًا مستترًا على الدين والفلسفة، مما يُضعف حياديته. فهو يُقدّم الفيزياء كبديل للميتافيزيقا، وهذا تجاوز لتخصصه العلمي.
الخلاصة:
- ما يُسمى “اللاشيء” في طرح كراوس ليس بلاشيء، بل فراغ فيزيائي نشط ومنظَّم، وبالتالي القول بكون نشأ من “لا شيء” هو خداع لساني لا أكثر.
- العدم ليس لاشيء، بل شيء فقد فاعليته. و”الفراغ” ليس خلوًا، بل وسط ممتلئ.
- إذا قبلنا بإمكانية نشوء شيء من لا شيء، فإننا نقوّض كل العلوم وكل منطق، ونفتح باب العبث والتناقض الذاتي.
- لذلك، فإن عنوان الكتاب: “كون من لا شيء”، يتناقض مع مضمونه، ويتهاوى أمام أبسط قواعد التعريفات العقلية والسببية الفطرية.
اضف تعليقا