المقاتلون الأجانب بعد انتصار الثورات، بين الوفاء للدور النبيل ومتطلبات بناء الدولة

     عاشت العديد من الشعوب المقهورة حقبات طويلة من الاستبداد والطغيان، وحين انطلقت ثورات التحرر، لم تكن تلك الثورات صدى داخليًا فحسب، بل لقيت في حالات عديدة تعاطفًا وتضامنًا من مقاتلين أجانب آمنوا بعدالة القضايا، فانخرطوا بجهدهم ونفوسهم في نصرة شعوب مظلومة. غير أن هذه المشاركة، رغم شرفها، تطرح إشكالات معقدة عند الوصول إلى مرحلة بناء الدولة الجديدة، لاسيما إذا تم الإبقاء على المقاتلين الأجانب ضمن البنية العسكرية الرسمية أو السياسية. في هذا السياق، يفرض الواقع السياسي والدولي، ومعه مقتضيات السيادة والاستقرار، موقفًا عقلانيًا وإنسانيًا يدعو إلى انسحاب مُنَظَّم ومُشرّف لهؤلاء المقاتلين، تكريمًا لمشاركتهم وضمانًا لسلامة مسار الدولة الوليدة.

أولًا: الفرق بين نصرة الشعب والمشاركة في الحكم

من المهم التمييز بين الموقف الأخلاقي للمقاتل الأجنبي الذي لبى نداء نصرة المظلومين، وبين الدخول في مؤسسات الدولة السيادية بعد زوال النظام الظالم. فالثورة شأن داخلي نابع من معاناة شعب تجاه سلطة محلية مستبدة، والمقاتل الأجنبي الذي انخرط فيها فعل ذلك تعبيرًا عن موقف إنساني وديني، لا طلبًا لسلطة أو نفوذ.

وبالتالي، فإن استمرار وجوده ضمن البنية العسكرية أو السياسية للدولة الجديدة، خاصة في مواقع اتخاذ القرار، يُفقد الثورة طابعها السيادي، ويؤسس لصورة جديدة من الهيمنة الخارجية وإن اختلفت نواياها. وهنا تُطرح مسألة مشروعية هذا الوجود ضمن دولة تستعد لتثبيت ذاتها في المشهد الدولي وتطالب بالاعتراف الكامل بسيادتها واستقلال قراراتها.

ثانيًا: البعد الدولي وتأثير بقاء المقاتلين الأجانب

إن وجود مقاتلين أجانب في مؤسسات الدولة بعد مرحلة التحرير يشكل عائقًا أمام تطبيع العلاقات الدولية، خاصة في ظل وجود قوانين دولية صارمة تتعلق بالتدخلات العسكرية غير النظامية وبتصنيف الجماعات المسلحة العابرة للحدود. كما أن بقاء هؤلاء قد يُستخدم ذريعة لفرض عقوبات اقتصادية أو سياسية على الدولة الوليدة، مما يعمّق من معاناة الشعب الذي خرج في الأصل رفضًا للقهر والعزلة.

ومن هنا فإن انسحاب المقاتلين الأجانب من المواقع العسكرية ليس تخلٍّ عن دورهم، بل هو استكمال لهذا الدور، وتجسيد لحرصهم على استمرار الثورة في تحقيق أهدافها، وفي مقدمتها رفع الحصار الدولي واستعادة حضور الدولة ومكانتها.

ثالثًا: الواجب الأخلاقي والديني في الانسحاب المشرّف

من تمام نصرة الشعب المظلوم أن يُستكمل المعروف إلى نهايته، وذلك بأن يُفسح المجال لأبناء الشعب في إدارة شؤونهم، دون أي شبهة وصاية أو ضغط خارجي. وقد جاء في القيم الإسلامية أن “من أعان مظلوما فليتم معروفه”، وإتمام المعروف في هذا السياق هو الخروج الطوعي من مواقع التأثير الرسمي، مقابل الحصول على التكريم والامتنان، وضمان حق البقاء في البلد لمن شاء، أو العودة لوطنه حرًا كريمًا.

وهذا الفعل لا يحمل انتقاصًا من مكانة المقاتل الأجنبي، بل يُعلي من قدره، إذ يظهر التزامه الحقيقي بمبادئ العدل والحرية، بعيدًا عن المكاسب الدنيوية.

خاتمة:

إن التحدي الأكبر بعد الثورات ليس إسقاط الأنظمة فحسب، بل بناء الدول. وهذه المرحلة تتطلب تفرغًا وطنيًا صافيًا، خاليًا من التداخلات الخارجية مهما كانت نواياها طيبة. وإن انسحاب المقاتلين الأجانب من البنية العسكرية والسياسية للدولة الجديدة لا يعني نكران فضلهم، بل هو تعبير عن فهمهم العميق لمسؤولياتهم الأخلاقية والإنسانية. ومن واجب الشعب والدولة أن تكرّمهم، وتمنحهم حرية القرار في البقاء أو الرحيل، ولكن دون أن تكون لهم أدوار رسمية في المشهد السيادي. وبهذا، تُصان الثورة، وتُرفع العقوبات، ويُرد الجميل لصنّاع المعروف، ويبدأ عهد الدولة الراشدة.