الفرق بين حِجّة وحَجّة وحُجّة
القرآن الكريم هو مصدر للسان العربي ليس فقط لأنه نزل بلسان عربي مبين، بل لأنه أعاد تشكيل استخدام دلالات الكلمات عبر سياقه الخاص، مُبتعدًا عن الاستخدامات التاريخية أو الثقافية السابقة. في هذه الدراسة، سنحلل جذر (ح-ج-ج) وصيغه المختلفة (حِجَّة، حَجَّة، حُجَّة) وفقًا للنظام الداخلي للقرآن، ووفق قاعدة( إذا اختلف المبنى اختلف المعنى) مع الاستشهاد الحرفي بالنصوص.
١. أصل الجذر (ح-ج-ج) في القرآن:
الجذر (ح-ج-ج) يدل التحرك بسعة منتهي بجهد وقوة، سواء كان ماديًّا (كالحج إلى مكان) أو معنويًّا. ورد في القرءان:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (آل عمران: ٩٧).
هنا ربط القرآن بين “الحج” (فعل التحرك والتوجه بقوة) و”البيت” (المكان أو الجهة المعنية ).
٢. الصيغ الصرفية ودلالاتها:
أ. حِجَّة (بكسر الحاء):
- الوزن الصرفي: فِعْلَة (للأدوات أو الوحدات الزمنية).
- الدلالة القرآنية:
- وحدة زمنية:
﴿أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ (القصص: ٢٧).
هنا “حِجَج” (جمع حِجَّة) تعادل سنوات، لأن الكسر (فِعْلَة) يدل على التكرار الزمني، والمعنى هو دوران موسم الحج ثمان مرات.
-
- أداة تفصيلية:
﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحِجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ (الأنعام: ١٤٩).
“الحِجَّة” هنا هي البرهان المُفصَّل الذي يُنهي الجدل.
ب. حَجَّة (بفتح الحاء):
- الوزن الصرفي: فَعْلَة (للأفعال المادية).
- الدلالة القرآنية:
- فريضة الحج:
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ (البقرة: ١٩٦).
الفتح (فَعْلَة) يدل على الفعل المحدد (المناسك).
-
- الحدث الزمني:
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ (البقرة: ١٩٧).
“الحج” هنا هو الفعل المرتبط بأشهر محددة.
ج. حُجَّة (بضم الحاء):
- الوزن الصرفي: فُعْلَة (للحقائق المجردة).
- الدلالة القرآنية:
- الدليل المطلق:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنعام: ٨٣).
الضم (فُعْلَة) يدل على الحقيقة الكونية التي لا تحتاج تفصيلًا.
-
- الحُجَّة الفطرية:
﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: ٣٠).
الفطرة هي حُجَّةٌ داخلية مُجرَّدة.
٣. التمايز الدلالي عبر السياق:
القرآن يُفرِّق بين الصيغ عبر السياق النَّظْمي:
أ. التمييز بين “حِجَّة” و”حُجَّة”:
- في سورة الأنعام:
- ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾ (الآية ٨٣): حقيقة مطلقة.
- ﴿فَلِلَّهِ الْحِجَّةُ﴾ (الآية ١٤٩): أداة تفصيلية.
ب. التمييز بين “حَجَّة” و”حِجَّة”:
- في سورة البقرة:
- ﴿الْحَجَّ﴾ (الآية ١٩٦): فعل المناسك.
- في سورة القصص:
- ﴿ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ (الآية ٢٧): وحدات زمنية مرتبطة بدوران موسم الحج.
٤. الإجابة عن إشكالية “ثَمَانِيَ حِجَجٍ”:
كيف صارت “حِجَج” تعني سنوات ثقافة؟
- الدليل الصرفي:
الوزن (فِعْلَة) يُستخدم في العربية للدلالة على الأدوات أو التكرار، مثل: “سِجِلّ” (أداة كتابة)، “قِطَع” (وحدات متكررة). - الدليل السياقي:
القرآن ربط بين “حِجَج” و”عَشْرًا” في الآية:
﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ (القصص: ٢٧).
العدد “عشر” (١٠) في النص هذا يدل على الاكتمال الزمني، مما يؤكد أن “حِجَّة” وحدة زمنية.
٥. ردٌّ على من ينفي دلالة “حج البيت” على المناسك:
بعضهم يدعي أن “حج البيت” تعني “المحاججة” (الجدال)، لكن القرآن يُفنِّد هذا بالدلائل:
- أولًا: في سورة آل عمران ٩٧:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾.
كلمة “حِجُّ” (بكسر الحاء) هنا هي مصدر (فِعْل) يدل على التكليف الإلهي الشامل، وليس الجدال.
-
- لو كانت تعني “المحاججة” لاستخدم القرآن صيغة أخرى كـ”مُحَاجَجَة”، لكنه اختار “حِجُّ” ليربطها بـالبيت (الكعبة)، وهو مكان مادي.
- ثانيًا: في سورة الحج:
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ (الحج: ٢٧).
السياق هنا عن الحركة الجسدية (يأتوك رجالًا)، مما يؤكد أن “الحج” فعل مادي مرتبط بالمناسك.
- ثالثًا: في سورة البقرة:
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ (البقرة: ١٩٧).
الربط بين “الحج” و”أشهر معلومات” يقطع بأنه فريضة زمنية عملية، لا جدال فكري وعلمي.
٦. الخلاصة: القرآن كنظام دلالي مستقل
القرآن أعاد تعريف الكلمات عبر:
- السياق النَّظْمي: مثل ربط “حِجَّة” بالزمن في قصة موسى.
- الوزن الصرفي: كتمييز “حِجَّة” (أداة) عن “حُجَّة” (حقيقة).
- النسق الدلالي: كتوظيف الجذر الواحد في حقول متعددة (زمن، فعل، برهان).
- الحَجُّ(بالفتح) و حِجُّ (بالكسر):
- كلاهمامصدران للفعل حَجَّ، يدلان على فعل قصد البيت وأداء المناسك.
- الفرق بينهما دقيق:
- الحَجُّ(بالفتح): هو الأشهر والأكثر استعمالاً، يُركّز على الحدث والشعيرة نفسها وتوقيتها
- حِجُّ(بالكسر): أقل شيوعاً، يركز أكثر علىالفرضية، نوع القصد، أو الحق الواجب لله
- الحِجَّة(بالكسر والتاء المربوطة ة):
- ليست مصدراً بنفس معنى الأولين، بل هياسم على وزن فِعْلَة.
- لها معنيان مختلفان تماماً عن فعل الحج:
- المعنى الأساسي:البرهان والدليل الذي يُحتج به لإثبات حق أو إبطال باطل
- معنى مُشتَقّ:الوحدة الزمنية (العام)، لأن الحج عادة يتم مرة كل عام بالنسبة للحجاج
٧. التفريق بين “لسان القوم” و”اللسان العربي المبين”:
قوله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ (إبراهيم: ٤).
- “لسان القوم”: يشير إلى لهجة التخاطب التي يفهمها الناس (كالعبرية لموسى، أو العربية لمحمد).
- “لسان عربي مبين”: يشير إلى النظام اللساني القرآني الذي أعاد تشكيل العربية لخدمة الرسالة العالمية.
القرآن استخدم لسان القوم العربي لكنه بمستوى علمي منطقي منضبط وانفرد بصفة عربي مبين، جعلت كل كلمة حُجَّةً على الإحكام اللساني، وكل جذر بُرهانًا على الوحي.
اضف تعليقا