دراسة لسانية قرآنية في التفريق البنيوي والدلالي بين “إله” و “الله”

     يتميز القرآن الكريم بإحكام لساني دقيق يتجلى في انتقاء الألفاظ وبناء التراكيب، بما يخدم البنية المفهومية العميقة للنص. من بين المواضع التي شابها بعض الالتباس نتيجة للتلقي عن بعض جوانب الموروث التفسيري، أو عدم التدقيق اللساني الكافي، مسألة العلاقة بين مفهومي “إله” و”الله”. فقد شاع تصور يرى الكلمتين متطابقتين، أو أن “الله” هو مجرد “الإله الحق”. غير أن التحليل اللساني المتأني، بالتركيز على البنية الجذرية، والسلوك الصرفي، والوظيفة الدلالية في السياق القرآني، يكشف عن تباين جوهري بينهما. هذا التباين لا يقتصر على الأصل الاشتقاقي، بل يمتد إلى الوظيفة المفهومية، مما يجعل من الدمج بينهما مدعاة لتشويش محتمل في التصور العقدي ذاته. تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك هذا الالتباس من منظور لساني قرآني صارم.

أولًا: “إله” – توصيف لوظيفة أو علاقة سلوكية مكتسبة بالاتخاذ، لا تعيين لذات مجردة

كلمة “إله” في اللسان القرآني لا تدل ابتداءً على اسم علم لذات محددة، وإنما تُعبّر عن توصيف لوظيفة أو علاقة تنشأ بين فاعلٍ (الإنسان) وطرفٍ ما (المألوه)، حيث يوجّه الإنسان نحو هذا الطرف سلوكه ووعيه وطاعته وعبادته. هذه الصفة (الألوهية) تُكتسب من خلال فعل “الاتخاذ”.

  1. الجذر اللساني (أ ل هـ)):يعود أصل كلمة “إله” إلى الجذر الثلاثي (أ ل هـ).
  2. دلالة الاتخاذ:إن “الألوهية” التي تشير إليها كلمة “إله” ليست صفة ذاتية للشيء في حد ذاته (في حالة الآلهة الباطلة)، بل هي صفة تُخلع عليه أو تُسند إليه بفعل “اتخاذ” من قِبَل الإنسان. فالنبي محمد عليه السلام “اتخذ الله إلهًا”، وهذا اتخاذ حق. بينما الكافر “اتخذ غير الله إلهًا” (كالهوى أو الصنم)، وهذا اتخاذ باطل.
    • يوضح ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ﴾ (الجاثية: 23). فـ “الهوى” هنا ليس ذاتًا قائمة بمعزل عن فعل الإنسان، بل هو حالة داخلية أو ميل نفسي اتخذه الإنسان مرجعًا وموجهًا لسلوكه، أي جعله “إلهًا” له. فـ “إلهه” هنا هو الهوى الذي مُنح هذه الوظيفة بفعل الاتخاذ. هذا يؤكد أن “الإله” في هذا السياق هو توصيف لوظيفة أو علاقة سلوكية وشعورية مكتسبة، وليس اسمًا لذات عليا متعينة بذاتها.
  3. التعدد والاختلاف:بناءً على أن “الألوهية” (كوظيفة) تُكتسب بالاتخاذ، فإن “الآلهة” يمكن أن تتعدد وتختلف باختلاف ما يتخذه الناس. فكل ما يُتخذ مرجعًا للعبادة والطاعة والخضوع يصير “إلهًا” لمتخِذِه، سواء كان هذا المتخَذ حقًا أم باطلاً، ذاتًا حقيقية أم وهمية، شيئًا ماديًا أم مفهومًا مجردًا. ولهذا يصح جمع “إله” على “آلهة” في القرآن الكريم، للإشارة إلى تعدد هذه المعبودات المتخَذة: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا﴾ (ص: 5).

ثانيًا: “الله” – اسم عَلَم للذات العليا، ذو بنية فريدة لا تُشتق ولا تُثنّى ولا تُجمع

بخلاف كلمة “إله”، فإن كلمة “الله” هي اسم عَلَم خاص، لا يُطلق إلا على الذات الإلهية الجامعة للأسماء الحسنى، المرجعية العليا التي يؤول إليها كل شيء ويقوم بها الوجود. وله خصائص بنيوية ودلالية تميزه بشكل قاطع:

  1. الجذر اللساني (آل):يُرجَّح أن المادة اللسانية الأساسية لاسم “الله” تعود إلى الجذر العربي القديم (آل)، الذي يحمل دلالة العودة والرجوع والارتكاز. ومن هذا الجذر جاءت معاني مثل “آل فلان” أي من يؤول إليه أمرهم وينتمون إليه. هذا الجذر “آل”، في تطوره في الألسنة العربية القديمة (مثل “إيل” في العبرية والآرامية)، كان يشير إلى الجهة العليا أو المرجعية، ومنه ظهر اسم “إسرائيل” التي تعني  الباحث عن الله، وجبرائيل التي تعني جبروت الله.
  2. بنية الاسم و “الـ” الأصيلة فيه:
    • السمة البارزة في اسم “الله” هي “الـ” في أوله. هذه “الـ” ليست أداة تعريف زائدة يمكن حذفها (فالعَلَم معرفة بذاته)، ولا هي جزء من الجذر الأصلي (آل). بل هي جزء أصيلمن بنية الاسم العَلَم نفسه، أُلحقت بالمادة اللسانية الأساسية (المتطورة عن “آل”) لتكوين هذا الاسم العلم الفريد.
    • يُستشهد على هذه البنية الفريدة بأسماء أعلام أخرى في القرآن الكريم مثل اسم النبي “اليسع”{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ }الأنعام86، فـ “الـ” في “اليسع” هي جزء أصيل من الاسم العلم الذي هو بطبيعته معرف ولا يحتاج للتعريف، وهي ليست جزءًا من جذر الاسم (وسع). فكما أن “الـ” جزء من تكوين اسم “اليسع”، كذلك هي جزء من تكوين اسم “الله”. برهان واحد من القرآن الكريم كافٍ لإثبات هذا النمط البنيوي.
    • كون “الـ” جزءًا أصيلاً من الاسم يفسر لماذا لا يمكن حذفها، فذلك يغير الكلمة بالكلية أو يلغي علميتها.
  3. عدم الاشتقاق والتصريف:اسم “الله” لا يُشتق منه، ولا يُثنّى، ولا يُجمع، مما يؤكد طبيعته كاسم علم مفرد لذات واحدة لا شريك لها ولا نظير.
  4. الخصائص الصوتية الفريدة:تتميز لام لفظ الجلالة “الله” بخاصية التفخيم إذا سُبقت بفتح أو ضم، والترقيق إذا سُبقت بكسر. هذه سمة صوتية تنفرد بها هذه اللام في هذا الاسم العظيم، مما يعزز تفرده وتميزه اللفظي والمعنوي.

ثالثًا: البنية الفاصلة في قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (محمد: 19)

هذه الآية المحورية، وهي جوهر التوحيد، تُظهر التفريق البنيوي والدلالي بين “إله” و”الله” بأوضح صورة، من خلال تركيب النفي والإثبات:

  1. النفي (لَا إِلَٰهَ):
    • “لا” النافية للجنس تنفي جنس “الإله”. وبناءً على ما سبق، فإنها تنفي وجود أي “وظيفة ألوهية” أو “علاقة سلوكية وعبادية” يصح أن تُسند أو تُوجَّه إلى أي كائن أو مفهوم أو شيء على الإطلاق.
    • أي: لا يوجد أي “مُتَّخَذ” يمكن أن يكون “إلهًا” بحق، ولا تصح أي “علاقة تأليه” مع أي جهة كانت.
  2. الإثبات (إِلَّا اللَّهُ):
    • أداة الاستثناء التي تفيد الحصر لأنها مسبوقة بنفي “إلا” تُخرج من هذا النفي العام.
    • “اللهُ” (الاسم العلم) هو المستثنى. والمعنى: إلا الذات العليا المسماة “الله”، فهي وحدها التي تستحق أن تُتخذ “إلهًا”، أي أن تُفرد بهذه الوظيفة وتُوجَّه إليها هذه العلاقة السلوكية والعبادية بشكل حق.
    • فالآية تنفي استحقاق أي “مألوه” (إله) للعبادة، وتثبت هذا الاستحقاق حصرًا لـ “الله”.
  3. دلالة التركيب:هذا التركيب يُظهر أن:
    • “إله”:هو الوظيفة أو العلاقة التي قد يسندها الإنسان لشيء ما (حقًا أو باطلاً).
    • “الله”:هو الاسم العلم للذات الوحيدة التي تستحق أن تُسند إليها هذه الوظيفة أو العلاقة بحق.
    • لو كان “الله” مرادفًا لـ”الإله” (بمعنى الإله الحق فقط)، لكان التركيب (لا الإله الحق إلا الإله الحق) أو (لا الله إلا الله) تكرارًا لا ينسجم مع الإحكام والدقة القرآنية. لكن التمييز الجذري والبنيوي بين الكلمتين يجعل للتركيب معنى عميقًا ودقيقًا: نفي كل علاقات الألوهية الباطلة، وإثباتها صحيحة وحقة للذات العليا “الله” وحدها.
    • يمكن أن يُقال (زورًا) “لا إله إلا زيد” (كما فعل فرعون بادعائه الألوهية)، وهذا يوضح أن “إله” هنا هي توصيف للوظيفة التي يدعيها زيد لنفسه، وليس اسمًا ذاتيًا له.

رابعًا: الأثر العقدي لهذا التفريق اللساني – المفهومي

إن التفكيك اللساني للجذور والبنى يكشف أن “إله” و “الله” ليستا مجرد كلمتين متطابقتين في المعنى أو إحداهما أخص من الأخرى بشكل سطحي، بل هما مفهومان متمايزان جوهريًا:

  • “إله”: توصيف ديناميكي لوظيفة أو علاقة عبادية وسلوكية ومرجعية، تنشأ بفعل “اتخاذ” الإنسان لجهة ما، سواء كانت هذه الجهة حقًا (كالله) أو باطلاً (كالهوى أو الأصنام).
  • “الله”: اسم عَلَم ثابت، ذو بنية فريدة (مع “الـ” كجزء أصيل من الاسم، ومادته اللسانية من جذر “آل”)، لا يُثنّى ولا يُجمع ولا يُشتق، يدل حصريًا على الذات العليا المطلقة، واجبة الوجود، التي تُرجع إليها كل الأمور ويقوم بها كل شيء.

يترتب على هذا التفريق الدقيق فهم أعمق لمعنى التوحيد:
فالتوحيد ليس مجرد الإقرار اللفظي بوجود “الله” ووحدانيته كخالق، بل هو عملية مركبة تبدأ بنفي كل “إله” باطل (أي تفكيك كل علاقات الألوهية الباطلة والمفاهيم الخاطئة للمرجعية داخل النفس البشرية وفي الواقع الخارجي)، ثم إثبات هذه الألوهية الحقة وتوجيهها كاملةً وصحيحةً إلى “الله” وحده. وهذا هو مقتضى شهادة التوحيد الكبرى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾. فالعلم هنا يشمل العلم بهذا التمييز الدقيق بين نفي “الألوهية” (كوظيفة أو علاقة) عن كل ما سوى الله، وإثباتها خالصة لـ “الله” (الذات العلية).

خاتمة:
إن هذا التحليل اللساني القرآني، الذي يركز على البنية الداخلية للكلمات وسياقها الوظيفي في النص القرآني ذاته، بعيدًا عن الافتراضات المسبقة، يفتح آفاقًا أرحب لفهم دقة الإحكام اللساني للقرآن الكريم، وأثر هذه الدقة على بناء التصورات العقدية السليمة والواضحة. التفريق بين “إله” و “الله” ليس ترفًا لسانياً، بل هو ضرورة لفهم جوهر رسالة التوحيد كما أرادها النص القرآني المبين، وبالتالي ظهر لنا الفرق بين قولنا: توحيد الله بالألوهية ، وقولنا وحدانية الله كذات له الأسماء الحسنى .