هل يشترط الصوت للكلام؟
“وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا”
يثير مفهوم “الكلام”، وبخاصة “الكلام الإلهي”، تساؤلات جوهرية حول طبيعته وآليته. هل يرتبط الكلام حتمًا بإنتاج موجات صوتية تُدرك عبر حاسة السمع التقليدية؟ أم أن جوهر الكلام يكمن في نقل المعنى وتحقيق الإفهام بين متكلم ومخاطَب، بغض النظر عن الوسيلة أو الكيفية؟ يأتي النص القرآني المحكم “وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا” (النساء: 164) ليضعنا أمام حالة فريدة تدعو إلى التأمل العميق في هذه الإشكالية. تهدف هذه المقالة إلى تدبّر هذه الآية الكريمة بالاستناد إلى بنية النص القرآني ذاته، ومقتضيات المنطق العقلي، ودلالات اللسان العربي المبين، مسترشدين بإمكانية فهم التواصل الإلهي في إطار يتجاوز المألوف الحسي، مع الالتزام الأصيل بمبدأ التنزيه الإلهي “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ” (الشورى: 11).
السمع وظيفة واعية وليست فزيائية:
إن السمع لا يحصل في الأذن وإنما يحصل بواسطة الأذن كجهاز لاقط للأصوات، اقرأ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179.
وهذا يدل على أن البهائم لا تسمع ولاتبصر لانتفاء الوعي عندها رغم وجود أذان وأعين لها ويستخدمونها فيزيولوجيا كأداة للانفعال والتفاعل
تحليل بنية الآية ودلالاتها اللسانية:
يتألف النص المحوري للدراسة من فعل وفاعل ومفعول به ومصدر مؤكِّد (مفعول مطلق): “وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا”.
- الفعل “كَلَّمَ”:جاء الفعل على صيغة “فعَّل”، وهي صيغة تحمل في طياتها دلالات التعدية والتأثير، وتشير بوضوح إلى وقوع حدث تواصلي تم من خلاله نقل وإيصال للمعاني والمفاهيم من الذات الإلهية إلى النبي موسى عليه السلام. إن الجذر (ك ل م) في العربية يرتبط بإحداث الأثر، والكلام هو إحداث أثر بالمعنى في نفس المخاطَب. فالفعل هنا يقرر وقوع عملية إفهام وإعلام إلهي مباشر لموسى.
- المصدر المؤكِّد “تَكْلِيمًا”:يمثل المفعول المطلق “تكليمًا” ركيزة أساسية في فهم دلالة الآية. وظيفته النحوية واللسانية الأساسية هي تأكيد وقوع الفعل وتقرير حقيقته وثبوته. استخدامه هنا ينفي أي تردد أو شك في أن ما حدث كان فعلاً “كلامًا” بالمعنى الحقيقي الذي يفهمه الذهن من التواصل المباشر الواضح، وليس مجرد إلهام باطني صامت أو رؤيا رمزية تحتاج إلى تأويل. إنه تأكيد لساني قاطع على أن موسى عليه السلام قد تلقى خطابًا إلهيًا بشكل مباشر ومفهوم. إن هذا التأكيد اللساني البليغ يوجه الفهم نحو حقيقة الحدث لا رمزيته.
السياق القرآني والتفاعل الحواري:
لا تأتي هذه الآية معزولة، بل ضمن سياق قرآني أوسع يصف مرارًا حوارات مفصلة بين الله تعالى وموسى عليه السلام (كما في سورة طه، القصص، الأعراف وغيرها). هذه الحوارات تظهر موسى مستمعًا، فاهمًا، سائلًا، ومستجيبًا للأوامر والتوجيهات. هذا التفاعل الحي، كما يصوره القرآن، ينسجم تمامًا مع التأكيد في “تكليمًا”، إذ لا يمكن أن يحدث مثل هذا الحوار التفاعلي إلا بناءً على كلام واضح ومدرَك إدراكًا تامًا من قِبَل موسى. كما يميّز القرآن بين طرق الوحي المختلفة، ويخص موسى بهذا التكليم الذي يؤكَّد مصدره بـ “تكليمًا”، مما يشير إلى خصوصية هذا النوع من التواصل في وضوحه ومباشرته.
التدبر المنطقي وإشكالية الكيفية والتنزيه:
إن إقرار النص القرآني بحقيقة “التكليم” الإلهي لموسى، مع التأكيد اللساني عليه، يضعنا أمام تساؤل منطقي: كيف يتم هذا الكلام الإلهي الحقيقي دون أن يستلزم ذلك مشابهة للخالق بالمخلوق في أدوات الكلام وآلياته (كالأعضاء الصوتية والموجات المادية)؟ هنا يأتي دور التدبر العقلي المنضبط بمبدأ التنزيه “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ”.
يطرح المنشور المرجعي فكرة تأملية هامة: إمكانية أن يكون هذا “التكليم” قد تحقق من خلال إحداث الإدراك السمعي مباشرة في مركز الوعي أو السمع لدى النبي موسى عليه السلام، بقدرة إلهية مطلقة تتجاوز الوسائط المادية المعهودة. هذا الاحتمال التدبّري يقدم مقاربة تنسجم مع معطيات النص والمنطق:
- تحقيق المباشرة والتأكيد (“تكليمًا”): التواصل الذي يصل مباشرة إلى مركز الإدراك، متجاوزًا الأذن والهواء، هو شكل فائق من المباشرة والوضوح. إنه استقبال لا يعتريه النقص أو التشويش الذي قد يصيب الصوت المادي، مما يجعل التأكيد بـ “تكليمًا” أشد بيانًا لوصول الرسالة الإلهية بكامل حقيقتها وقوتها إلى وعي موسى.
- صون التنزيه الإلهي: هذه الفرضية لا تستلزم وجود أعضاء نطق مادية للذات الإلهية، ولا تحتاج إلى موجات صوتية فيزيائية. إنها تنسب الفعل إلى قدرة الخالق المطلقة التي تخلق الإدراك مباشرة في المخلوق بالكيفية التي تليق بها، وهي كيفية لا نعلمها ولا تشبه كيفيات المخلوقين. بهذا، يتحقق معنى الكلام الحقيقي دون الوقوع في محظور التشبيه أو التجسيم.
- ضمان الوضوح واليقين: إن الإدراك المباشر الناتج عن هذا الفعل الإلهي سيكون بالضرورة واضحًا جليًا يقينيًا لموسى، ربما أشد وضوحًا من أي صوت خارجي. هذا اليقين التام هو ما يتناسب مع التأكيد القاطع في “تكليمًا”، ومع ثبات موسى ويقينه بما سمع.
- انسجام مع التفاعل: إحداث الإدراك السمعي مباشرة في الدماغ لا يلغي تفاعل موسى. التجربة الإدراكية بالنسبة له هي تجربة سمعية حقيقية بكل أبعادها، مما يمكّنه من الفهم العميق، وطرح الأسئلة، والاستجابة كما ورد في السرد القرآني. إن الوعي بالكلام ومعناه هو الأساس للتفاعل، بغض النظر عن مسار وصول هذا الكلام إلى الوعي.
إعادة النظر في شرطية الصوت للكلام:
بالعودة إلى السؤال المحوري: هل يشترط للكلام الصوت؟ من خلال هذا التدبر، يمكن القول بأن جوهر “الكلام” هو الإبانة ونقل المعنى وتحقيق الفهم بين متكلم ومخاطَب. الصوت هو الوسيلة البشرية الأكثر شيوعًا لتحقيق ذلك، لكنه ليس شرطًا وجوديًا للكلام في ذاته، خاصة عند الحديث عن الفعل الإلهي. الآية الكريمة “وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا” تؤكد على نتيجة الفعل (تحقق التواصل الحقيقي المباشر) وعلى فاعله (الله)، أما الكيفية فتترك لعظمة القدرة الإلهية التي لا يحدها تصورنا للوسائل المادية. التأكيد بـ “تكليمًا” ينصب على حقيقة وقوع الفعل ووضوحه لموسى، لا على اشتراط آلية الصوت المادي.
خاتمة تأملية:
إن تدبر آية “وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا” من منظور قرآني ولساني ومنطقي، مع استصحاب مبدأ التنزيه، يقودنا إلى فهم أعمق لمعنى “الكلام الإلهي”. التأكيد اللساني القاطع في “تكليمًا” يثبّت حقيقة هذا التواصل ومباشرته. والسياق القرآني يظهر أثره في التفاعل والفهم. والتدبر المنطقي، مستلهمًا من إمكانية تجاوز الآليات الحسية المادية، يقدم احتمالاً لفهم كيفية تحقق هذا الكلام الفريد بما ينسجم مع القدرة الإلهية المطلقة والتنزيه التام عن مشابهة المخلوقين. إنها رؤية تعتبر أن الكلام الإلهي لموسى كان إدراكًا سمعيًا حقيقيًا ومباشرًا ويقينيًا، خلقه الله في وعي نبيه بالكيفية التي أرادها، وهي كيفية تليق بجلاله وعظمته، وتتجاوز بالضرورة حدود فهمنا وإدراكنا. ويبقى العلم اليقيني بكيفية هذا التكليم عند الله وحده.
اضف تعليقا